ثم كانت الكشوف الجغرافية التي أخبرت إنسان عصر النهضة في نهايات القرن الخامس عشر، أن العالم الطبيعي أوسع كثيرا مما تصور أرسطو، ومن كل ما تضمنته الصحائف وكتب الأقدمين التي كانت تقف عند مضيق جبل طارق غربا، وما بعده بحر الظلمات وخط الاستواء جنوبا، فضلا عن أن الكوبرنيقية أدت إلى تصويب النظرة الفلكية ليبدو الكون الطبيعي بأسره هو الآخر أوسع كثيرا. بدت الطبيعة عالما مثيرا يغري بالكشف واقتحام المجهول. ومع نهايات القرن السادس عشر كان السؤال عن الطبيعة قد ارتفع إلى الصدارة، وأوشك أن يكون سؤال العصر الذي تنشغل به العقول.
وسرعان ما توالت المتغيرات على الأصعدة كافة، الصعيد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتجاري ... وظهرت المطبعة وبدأت المخترعات والماكينات تغير من وجه الحياة، وراحت العقول الواعدة تتلمس الجديد من كشوف العالم الطبيعي. طغى الإحساس بعقم وإجداب المنطق الأرسطي وقياساته، وما يتسم به القياس من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيل لحاصل. غير أن ما عابه على الخصوص، هو أنه أسهم مع الأناجيل في إقصاء العقول عن التفكير في الطبيعة بسبب من مجافاته للواقع؛ إذ إنه منطق لتناول قضايا مطروحة في الصحائف والأوراق، وكانت الثورة على قياس أرسطو ومنطقه بمثابة الإعلان الصريح عن رفض الماضي، والرغبة في الإقبال بمجامع النفس على الآفاق الجديدة للعصر الجديد، واستكشاف الطبيعة، هذا العالم النابض الذي امتد وترامت آفاقه أمام إنسان العصر الحديث.
أصبح الهم الفلسفي الأول صياغة منهج حديث يلائم الروح الحديثة، ويلبي المتطلبات المعرفية المستجدة للعصر الحديث، وفي الطليعة يتقدم ديكارت (1596-1650م) الرائد، ليمثل العلامة الفارقة وانتهاء المدرسية وفلسفة العصور الوسطى، راح يؤسس الفلسفة الحديثة وهو يستلهم وضوح الرياضيات، ويقينها في محاولة لتأسيس المبادئ العامة للمعرفة بأسرها؛ أيضا أسس الهندسة التحليلية، وقام بدور في تطوير علم الطبيعة الحديث. وإذا أخذنا في الاعتبار أن قوة منهج العلم في تآزر التجريب مع الرياضيات، أمكن القول إن ديكارت الذي انطلق من أهمية الرياضيات وخصائص التفكير الرياضي، إنما يشارك في إرساء الأصول المنهجية للعلم الحديث.
على أن رفع لواء المنهج التجريبي تعبيرا عن روح العصر الحديث ومهمته وواجباته وطموحاته وعن معالم الحداثة ذاتها، إنما هو مقام محفوظ للفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون
F. Bacon (1561-1626م) الذي يوازي الفيلسوف الفرنسي ديكارت في الأهمية، حين طرح قضية المنهج والحداثة، ولا يوازيه أحد حين طرح قضية المنهج التجريبي والعلم الحديث.
لقد اقتحمت أوروبا آفاق الحداثة، وتربع المنهج العلمي على عرش العرفان، ومنذ ذلك الحين فصاعدا ترسخ نهائيا أن كل وأي حديث عن الحداثة والتحديث، مقترن بالضرورة بتمكين وتفعيل لمفهوم المنهج العلمي.
الفصل الثامن
المنهج العلمي والحداثة
(1) أورجانون العلم والعصر
في شريعة الفلسفة وأعرافها لا يجوز الخوض في مفهوم المنهج العلمي دون التوقف، كي نزجي التحية لفرنسيس بيكون. كان الأقدر على تجريد وتجسيد روح العصر الحديث المنطلقة بعنفوانها، واستقطاب سؤال العصر/سؤال الطبيعة، وصفها بأنها «المملكة الكبرى للمعرفة البشرية التي يستطيع الإنسان غزوها، والسيطرة عليها عن طريق التجريب»،
ناپیژندل شوی مخ