وفقا لهذا التعريف، نجد العلم منظومة؛ أي نسق، و«النسق»
system
كل متكامل، يتميز بأن لكل جزء من أجزائه موضعه المحدد، وعلاقاته المنطقية المحددة التي تربطه بالأجزاء الأخرى. وبهذا نتفهم لماذا يمكن أن نستخدم مصطلح العلم كمفرد علم، ليدل على مجموعة هائلة من العلوم الرياضية والفيزيائية، والكيميائية والحيوية والاجتماعية والإنسانية ... تعد فروعها بالآلاف (وكذلك يقال فلسفة العلم أو فلسفة العلوم). أما أنه منظومة ممنهجة أو نسق ممنهج، فذلك يعني ببساطة أن العلم في تكونه وتناميه المطرد، يشكل كيانا مستقلا يحمل في صلب ذاته حيثياته، وإمكانيات تناميه وفاعلية عوامل تقدمه المطرد. النسقية تعني إحكام المشروع العلمي، فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات ومحكات وقياسات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تحدد لظاهرة العلم تخوما تخصصية واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية، فيجعلها تمثل متصلا صاعدا، يواصل تقدمه باستمرار. البحث العلمي يتبع طرقا وأساليب مترسمة لإنتاج معرفة لها خصائصها المنطقية. وإنتاج معرفة هو إنتاج قضايا إخبارية؛ أي وضع عبارات تعطينا خبرا عن ظواهر العالم وتوصيفا لها، ثم تفسيرا، فتمكننا من التنبؤ بالوقائع المقبلة، وبالتالي السيطرة التقانية (التكنولوجية) عليها وعلى مسارها، أو على الأقل توجيهها وفقا لما يعظم المنافع ويقلل المضار والخسائر.
على أن العلم لا ينتج معرفة أو قضايا فحسب، بل الأهم أنه دائما يعيد الإنتاج. معنى إعادة الإنتاج
prolification
أن كل قضية علمية أو معرفة علمية محرزة، يمكن دائما تصويبها وتعديلها، ولا إنجاز أو إنتاج معرفيا علميا يعني أن البحث في موضوعه قد انتهى، ومهما كان الإنجاز رائعا يظل الباب مفتوحا دوما لمواصلة البحث العلمي، والوصول إلى ما هو أفضل؛ أي إعادة الإنتاج، بعبارة أخرى إعادة الإنتاج هي قابلية العلم المستمرة للتقدم، لإنتاج معرفة أفضل. إنه التقدم المتقد الجبار الذي لم يعد ممكنا تفسيره، كمحض تراكم ونظرية تلو نظرية وكشف بجوار كشف، بل احتل مفهوم الثورة الميدان، وتصدر الواجهة في تفسير طبيعة التقدم العلمي، وأصبحت فلسفة العلم تدور حول التقدم والثورة منذ كارل بوبر
K. Popper (1902-1994م) وتوماس كون
T. Kuhn (1922-1996م) وخلفاء لهما.
والمعرفة العلمية في كل هذا تنصب فقط على العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، العالم المشترك بين الذوات أجمعين؛ أي العالم المادي أو الفيزيقي، أو بالتعبير الإسلامي النافذ عالم الشهادة، كمتمايز عن عالم الغيب المطلق، الذي لا شأن للعلم التجريبي به، فلا يثبته أو ينفيه، ويؤتى من مصادر معرفية مختلفة عن المنهج العلمي. إن عالم الشهادة بظواهره ووقائعه، وأحداثه الشتى العديدة المتكثرة والمتداخلة، سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية، هو فقط مجال العلم ومنهجه، وهو العالم الأولي الذي ينبغي فهمه والسيطرة عليه لكي يتيسر وجود الإنسان، فيستطيع الانطلاق إلى العوالم الأخرى أو المستويات المختلفة للتجربة الحضارية والوجودية: العاطفية والشخصية والقومية والفنية ... إلخ. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بتعدد الأبعاد والمستويات والعوالم، ربما لا يكون العالم المادي التجريبي، هو أهم العوالم، ولكنه بلا جدال مستوى أولي مهم، التمكن منه والسيطرة عليه مقدمة ضرورية شرطية، للانطلاق إلى ما هو أعلى وأبعد. والعلم التجريبي هو سبيل العقل البشري لمثل هذا التمكن والسيطرة. •••
العلم
ناپیژندل شوی مخ