لكن هل يتسنى لكل من يفكر أن يجد في التفكير المجرد بهجة العيد ونشوة السكر؟ لا شك أنه في حاجة إلى كثير من الصبر والمران حتى يجد البهجة والنشوة بدلا من المشقة والعناء، ولن نجد بين فلاسفة العصر الحديث من راح يؤكد في إصرار أن التفلسف يحتاج - قبل كل شيء - إلى الوقت والصبر والتفرغ كما فعل نيتشه، ولن تجد أحدا عبر عن سخطه على التسرع والتفاهة كما عبر نيتشه، إنه يقول في إحدى حكم كتابه «العلم المرح» (رقم 329) تحت عنوان «التفرغ والفراغ»: «إن التعجل هو الرذيلة الحقيقية للعالم الحديث.» كما يقول: «لقد بات الناس يخجلون من الراحة والهدوء، ويكاد التأمل الطويل أن يصيبهم بلذع الضمير، إنهم يفكرون وهم ينظرون إلى الساعة في أيديهم، تماما كما يأكلون طعام الغداء وأعينهم على أخبار البورصة.» ... أو يقول في ختام المقدمة التي وضعها لكتاب «الفجر»: «مثل هذا الكتاب لا يعرف التعجل، ثم إننا أصدقاء الوقع البطيء، مثلي في ذلك مثل كتابي، ولم يكن عبثا أن أكون لغويا، ولعلي ما زلت كذلك حتى الآن، أعني معلما للقراءة البطيئة، وأخيرا يكتب الإنسان كذلك ببطء، هكذا أصبح الآن من عادتي، لا بل من ذوقي ومزاجي - وربما كان ذوقا شريرا - ألا أكتب شيئا لا يصيب المتعجل باليأس.» وكل من يقرأ نيتشه سيجد مثل هذه العبارات متناثرة في كتبه ورسائله، وكل من يريد أن يقرأه حقا فلا بد له من التريث والصبر، أعني لا بد له من التفكير معه. ألسنا نراه يقول في كتابه «هذا هو الإنسان»: «الرقاد في سكون، التفرغ ... الانتظار والصبر ... ولكن هذا معناه التفكير!»
أراد نيتشه أن يجعل عنوان كتابه الأكبر الذي لم يتمه «إرادة القوة»، ولكن أليست إرادة القوة هي أصفى تعبير عن فلسفته؟ وما شأن فلسفة تتحدث عن القوة بالفكر والتفكير؟ وأين نعثر على أثر للتفكير بين أولئك الحكام «الأقوياء» الذين راحوا بين الحربين العالميتين يتمسحون بنيتشه ويهيبون بفلسفته؟ وهل قصد نيتشه بعبارته عن إرادة القوة شيئا يتصل بالسياسة من قريب أو بعيد، كما أراد الذين أساءوا فهمه وجنوا عليه جناية لن ينصفه منها أحد إلى آخر الزمان؟ أم كانت في الحقيقة تعبيرا ميتافيزيقيا يلخص رأيه في حقيقة الحياة في كلمتين؟ أليس من واجبنا اليوم أن نبذل الجهد المضاعف لنفهم ما يريده بالإرادة والقوة وما يقصده من عبارته عن إرادة القوة؟
كتب على الفلاسفة العظام أن يساء فهمهم، كما كتب عليهم أن ينتشر تأثيرهم على أساس من هذا الفهم السيئ. ولعل نيتشه قد أحس بأن الأجيال المقبلة لن تفهمه ولن تنصفه فكتب يقول في أوراقه التي عثر عليها بعد موته: «إرادة القوة، كتاب هدفه التفكير، ولا شيء غير هذا.» ... «فإرادة القوة» قد وضع ليفكر فيه الناس، أي إنه كلام ميتافيزيقي، لا يقول شيئا عن أي شيء أو أية حالة تدخل في إطار هذا العالم، بل يتحدث عن العالم ككل، ويتجاوز كل ما يضمه من أشياء.
لم يكن نيتشه مفكرا فلسفيا فحسب، بل كان قبل ذلك كاتبا لامعا يلمس القلوب ببيانه الرائع ويهز العقول بأسلوبه الحي، ولقد كان يعرف ما يقول حين كتب لصديقته الشابة لوسالومي - وهي التي ستصبح بعد ذلك صديقة مقربة للشاعر رلكه - يوصيها بقواعد الأسلوب العشرة ويذكر من بينها أنه كلما زادت الحقيقة التي يريد الإنسان أن يعلمها للناس تجريدا، كان عليه أن يغري بها الحواس، ولقد نجح نيتشه في هذا الإغراء، حتى غاب عن خصومه وأنصاره على السواء ما في أفكاره العميقة من التجريد، وتشبث القراء بأنه شاعر فيلسوف، ومع أن الوصف في جملته صحيح، إلا أنه لا يمنعنا من القول بأن فلسفته لا تقل تجريدا ولا إحكاما عن فلسفة أرسطو أو كانط أو هيجل، بل إن النفاذ إلى فلسفته لا يقل صعوبة عن النفاذ إلى فلسفة هؤلاء، إن لم يزد عليها بكثير، فبينما يفر القراء من لغتهم الشاقة المعقدة التي تظهرهم على مشقة الموضوع الذي يتناولونه، يغريهم أسلوب نيتشه اللامع المتدفق بأنهم يقرءون شيئا يسيرا، ويوقعهم في خطر الفهم السريع، في حين أنهم يكونون أبعد الناس عن فهمه، بل إنهم في معظم الأحيان ينتشون بقراءته دون أن يدروا شيئا عن الموضوع الذي يتكلم عنه! والذين صبروا منهم على دراسته يعلمون تماما أنهم يصادفون لديه أصعب الأفكار والمشكلات التي تناولتها الفلسفة الغربية في تاريخها الطويل. •••
كان الفكر هو قدر نيتشه.
ونحن لا نقصد من ذلك المعنى الخارجي الظاهر من حياته فحسب، على الرغم من أننا نعلم أن عاطفة التفلسف قد حددت هذه الحياة القصيرة من كل نواحيها، والتهمتها في النهاية في جنون مفزع مخيف، فمما لا شك فيه أن حياة هذا المفكر كانت وستظل مثلا مجيدا مؤلما على نهاية الفكر الصادق الجاد. وسوف يحرك قلوبنا دائما أن نعرف كيف أن عاطفة الفكر المتحمسة قد جعلته في الرابعة والعشرين من عمره أستاذا للغات القديمة في جامعة بازل، وأبعدت بينه وبين الحياة الاجتماعية المطمئنة، ودفعت به شيئا فشيئا إلى مواضع الخطر والعداوة والتهديد؛ فراح في سبيل هذا القدر يضحي بالمستقبل الجامعي المشرق، وبالأصدقاء والمال والسمعة الطيبة، ويغوص بالتدريج في هاوية الوحدة والانفراد، حتى جاءت كارثة «تورين»
2
المعروفة، فعجلت بالنهاية المخيفة لكل هذا العذاب.
كل هذا معروف ومشهور، ولكن نيتشه يقصد شيئا أكبر منه حين يتحدث عن «قدر الفكر»، وعن التضحية بأفضل شيء لدى الإنسان وأحب شيء إلى نفسه. إنه يقول في الكتاب الخامس من «العلم المرح» تحت عنوان: «نحن الذين لا نخاف» هذه العبارة: «هناك فرق شاسع بين أن يقف المفكر بشخصه وراء مشكلاته بحيث يجد فيها قدره ومحنته وكذلك أسمى سعادته، وبين أن يقف منها موقفا غير شخصي.» أعني أن يفهم كيف يلمسها ويمسك بها بقرون استشعار الفكرة الباردة المتطفلة. في الحالة الأخيرة لا يخرج الإنسان بشيء، على كثرة ما يمني به نفسه؛ ذلك لأن المشكلات العظيمة - إذا فرض أنها تسمح لأحد بأن يفهمها - لا تدع للضفادع ولا المتخاذلين فرصة الاقتراب منها، إن هذا هو طبعها منذ الأزل، وهو بالمناسبة طبع تشارك فيه كل الفاتنات! ولقد كانت المشكلات التي عذبت نيتشه، والحقائق التي أحس هو نفسه بالرعب منها، هي قدر فكره، إنه يكتب إلى صديقه «أوفربك» فيقول: «لقد كنت أملي ساعتين أو ثلاثا كل يوم تقريبا، ولكن «فلسفتي» - إذا كان من حقي أن أصف ما يعذبني حتى أعمق جذور حياتي بهذا الاسم - لم يعد من الممكن نقلها إلى أحد، أو على الأقل لم يعد ذلك ممكنا عن طريق النشر.
إنني أشتاق في بعض الأحيان إلى عقد مؤتمر سري معك أنت ويعقوب بورخارت - لأسألكما كيف تواجهان هذه المحنة - أكثر من شوقي لرواية شيء جديد لكما.» ولكن المرجح أن زميلي نيتشه في جامعة بازل ما كانا ليوافقا على عقد هذا المؤتمر، ولو عقداه لما استطاعا أن يحسا بشيء من اليأس الذي أحس به في أواخر حياته، فلن يستطيع أن يشعر بهذا اليأس أو يشارك في بعض عذابه إلا من يجد في نفسه الاستعداد لمتابعته على طريق الفكر الشاق الطويل، والإرادة الكافية لتحمل قدره القاسي الأليم. إن نيتشه يقول بنفسه في إحدى القطع التي جمعت بعد موته: «إن علينا - قبل أن يصيبنا القدر - أن نسوقه كما نسوق الطفل ونضربه بالسوط، فإذا ما أصابنا فعلينا أن نبذل جهدنا لكي نحبه.»
ناپیژندل شوی مخ