هناك أبطال كثيرون علموا الإنسان كيف يقتل وكيف يموت، أما أوديسيوس فهو يعلمه كيف يواجه خطر الموت، فيفلت منه في كل مرة ويبقى حيا!
لقد رأينا كيف مكر بالوحش ذي الأسماء المشهورة، فهو ينكر اسمه فينجو من بطش الوحوش الأخرى: «إن لا أحد هو الذي اعتدى علي بالحيلة لا بالقوة.» وهو يتعلق ببطن الجدي السمين فلا تصل إليه يد العملاق، ويفعل كل ما يستطيع لكي يكون «لا أحد»، غير أنه لا يظل كذلك، ولا يحتمل أن يبقى مجهول الاسم، فحيلته الكبرى هي إنكار نفسه للإبقاء على نفسه، وليس من قبيل الصدفة أن يظهر أوديسيوس مجهول الاسم أمام الوحش ذي الأسماء المشهورة، فلعله رأى أن إنكار النفس هو أقصر طريق إلى الشهرة، وأن التخلي عن الذات هو أضمن وسيلة للمحافظة عليها.
عرف أوديسيوس إذن كيف يحافظ على ذاته أمام الموت، لم يقض على الوحوش الهائلة، بل فوت عليها فرصة القضاء عليه، ولم يبطل تأثيرها وسحرها، بل عرف كيف ينجو بنفسه منها، ولم يدخل معها في صراع ولا صدام حقيقي، كما فعل هرقل مع قوى الشر في مغامراته المشهورة، بل اكتشف نقط الضعف في قوتها الهائلة، وجانب القوة في ضعفه الإنساني. إنه لا يستسلم أبدا لقوة تريد أن تمحوه أو تبتلعه، فالجزر المسحورة التي تعده بالسعادة عن طريق النسيان، لا تستطيع أن تغريه بالبقاء، والساحرتان القديرتان «كاليبسو وكريكه» تفعلان كل ما في قدرتهما لإقناعه بالزواج منهما فلا تستطيعان أن «تحركا الشجاعة في صدره» على الارتباط بهما؛ ذلك أن الزمن الذي لا يتوقف ينجيه من العمالقة والوحوش، فهو المسافر الذي لا يستقر في مكان (سلف السندباد!) يملأ الشوق صدره إلى وطنه إيثاكا (خشنة هي إيثاكا ، ولكنها طيبة، وصالحة لإطعام الرجال). وتمر عليه التجارب المرة والعذبة، فلا تنسيه أنه ليس هناك ما هو أعذب من الوطن والأبوين، إنه المسافر الباقي، المحافظ على ذاتيته دائما، في بعض الأحيان يضطره الأمر إلى تقديم الدليل، حين تنكسر به السفينة على الشواطئ الغريبة أو يتخفى في ملابس الشحاذين، أو يعود إلى بيته، ولكن كيف يتم له ذلك؟ بالتذكر؛ فالتذكر هو الخيط الذي يمسك به على محطات رحلته، والتذكر هو الذي يحفظه من أن ينسى نفسه أو ينسى، وحين تتغلب عليه آلام التذكر تظهر حقيقته، فهدفه واحد لا يتغير، وهو الرجوع إلى وجوده القديم، والعودة إلى بيته ووطنه، وحين يعود إلى هذا الوطن، ويدخل بيته كما غادره شابا لم تغيره السنون، يبدو كأن الزمن الذي لم يكف عن الجريان قد توقف، وأن شخصيته التي تهددتها أهوال الرحلة لم تتغير ولم تصب بسوء، لقد كانت كالقدر المعلق فوق رأسه على طول الطريق، وإذا كانت النبوءة قد أخبرته من قبل أنه سيتعذب وسيعود إلى وطنه، فقد ظلت هذه النبوءة كالمستقبل الذي يتذكره قبل أن يحدث، لا الماضي الذي يستحضره بعد أن يفوت، وظل هو أوديسيوس الماكر الذي ينتصر على الخطر قبل أن يقع له، كأنه لا يتعلم ولا ينسى، ومع ذلك فالمكر له حدود، فهو مهما بالغ فيه لا يستطيع أن ينسى ولده، ولا أن يضحي باسمه، وهو مهما ادعى الجنون أو أنكر الاسم فلا يلبث أن يفضحه حرصه على المجد، كما يفضحه حرصه على الابن، وكلاهما ضمان لتخليد الذات عبر الزمن الدوار.
ونهاية أوديسيوس نفسها - على اختلاف رواياتها - تؤكد ذاتيته ولا تمحوها، فسواء كان موته على يد ولده تليجونوس من الساحرة كيركه، أم على يد ولده تليماخوس من زوجته بنيلوبه اللذين قتلاه دون أن يعرفاه، فإن موته لا يعني القضاء على شخصيته، على الرغم من محاولته أن ينكر نفسه ويبدو كأنه «لا أحد»؛ ذلك أن الولدين - وإن كتب على يديهما هلاك الأب - يحلان محله ويبقيان على اسمه من بعده، وذلك بأن يتزوج تليماخوس من كيركه وتليجونوس من بنيلوبه، وهكذا يمتد ذكر أوديسيوس امتداده الطبيعي على طريق الابن، وامتداده المعنوي عن طريق المجد والشهرة؛ لكي يبقى في ذاكرة الزمن رمزا للبطل الذي حاول أن ينكر نفسه فلم يستطع أن يكون «لا أحد»! •••
وتقابلنا شخصية أوديسيوس في العصر الحديث عند الشاعر برتولت بريشت في أقاصيصه «حكايات السيد كوينر» هنا نجد السيد «ك» (وهو اختصار لاسمه كوينر) الذي يصر على تسمية نفسه «لا أحد»، إنه يحاول أن يجعل عدم الاكتراث مبدأ حياته، فتكشف حياته وأقواله عن اكتراثه بكل شيء! إنه يأخذ على سقراط أن منهجه هو عدم الاكتراث (لو أنه درس شيئا لعرف شيئا)، وهو يقف في صف العدالة (فمسكنه يجب أن يحتوي على أبواب كثيرة للخروج)، وهو يؤثر الفيل على كل الحيوانات؛ فالفيل يجمع بين المكر والقوة، ويستطيع أن يكون حزينا وغضوبا، وهو لا يؤكل ويتقن العمل، ولا يلفت الأنظار بلونه ولكن بضخامته، وهو إذا أحس باقتراب نهايته ذهب إلى الغابة فمات وحيدا وفي صمت.
إن أوصاف السيد كوينر للحيوان الأثير لديه تنطبق على نموذج الإنسان عنده، فهو لا يحب أن يلفت الأنظار إليه، ويبالغ في ذلك إلى حد أن يسمي نفسه «لا أحد»، غير أن هذه التسمية لا تخدعنا؛ فالسيد كوينر ليس «لا أحد»، وهو لا يحب لنفسه ولا يمكنه أن يكون كذلك، فما الذي يدفعه إلى هذه التسمية؟ إن حكاية صغيرة من حكاياته توضح ذلك، «فقد التقى ذات يوم برجل لم يره منذ زمن طويل، وحياه هذا بقوله: إنك لم تتغير أبدا، فرد عليه السيد ك. قائلا: آه! وشحب وجهه.»
لا بد أن السيد ك. قد أحس بأن أمره افتضح، وإلا فلماذا شحب وجهه؟ هل شعر من تحية صديقه أنه يتهمه بأنه وقف في مكانه فلم يتطور ولم ينضج ولم يتقدم خطوة إلى الأمام؟ قد يكون هذا تفسيرا للشهقة التي انطلقت عنه، ولكن لو صح ذلك لتوقعنا أن يحمر وجهه خجلا لا أن يشحب اصفرارا، أم لعله شعر أن الرجل قد كشفه وتبين أنه لا يزال كما هو واحدا من الملايين بلا صفة تميزه ، و«سيدا» كآلاف غيره كلهم «كافات»؟ لو كان الأمر كذلك لما حق له أن يشحب وجهه، بل لرضي بذلك وفرح؛ لأنه لم يتناقض مع نفسه، لا يبقى إذن سوى أن نقول: إن وجهه قد شحب؛ لأنه غير راض عن الدور الذي يمثله دون أن يعبر عن حقيقته، ولأن صديقه قد عرف أنه ليس ذلك «اللاأحد» الذي يحاول جاهدا أن يدعيه، فهو قد أنكر ذاتيته، وراح يحملها كأنها عبء لا يستطيع أن يتخلص منه، ومع ذلك فقد أكدها بإنكاره لها، وهذا هو الذي فضحه فشهق وشحب وجهه.
هل يكون «السيد ك.» صورة جديدة من أوديسيوس في كهف الوحش الكثير الأسماء؟ إن أوديسيوس خائف من أن يكون لا أحد، إنه لا يمثل دور المنكر لنفسه كما يفعل شبيهه الحديث، بل يدعيه دفاعا عن اسمه الحقيقي وتخليدا له، ذلك هو مصدر خوفه، أما السيد ك. فقد تخلى عامدا عن اسمه، ولسنا ندري من حكاياته إن كان يحمل اسما سريا مما تحمله الشخصيات الخرافية التي تعيش تحت الأرض. فتخليه عن اسمه لا يعني أنه تخلى عن ذاته، بل العكس هو الصحيح؛ لأن اسمه الجديد نوع من الإفلات من الاسم، يتيح له في نفس الوقت أن يعرف وأن يتجاهل ما عرف، أو يتظاهر بتجاهله. ولقد افتضح أمره؛ لأنه تعمد أن يستبعد التسمية؛ فلم يفلح في أن يظل بغير اسم، ورغم أنه لا أحد فلم ينجح في أن يكون لا أحد، أراد أن يبعد عن نفسه شبهة المعرفة، فتبين أنه عرف إلى حد السخط والثورة، وأصبح رمزا لكل من يقف موقف الأعزل في وجه القسوة والظلم والوحشية، فيقاومها بعجزه عن المقاومة!
أضف إلى هذا كله أن السيد «ك» ليس أي واحد من الناس، إنه يلقي المحاضرات، ويثبت أنه نافع (الفيل كذلك حيوان نافع: فهو يؤدي شيئا في سبيل الفن إذ يقدم سن الفيل!) إنه يستطيع في بعض الأحيان أن يحتج، فيعلن في إحدى خطبه العامة أنه يستنكر العنف والإرهاب، هنالك يلاحظ أن الحاضرين انسحبوا من محاضرته ، ويلتفت السيد «ك» ليرى الإرهاب نفسه واقفا وراءه! فإذا سأله ماذا كان يفعل؟ أجاب بأنه عبر عن سخطه عليه، يسأله تلاميذه: لم لم يكن له ظهر يحميه؟ أو لماذا خلق بغير عمود فقري؟ فيروي لهم حكاية عن «السيد إجه
Herr Egge »، ففي زمن النازية الذي تعطلت فيه القوانين وسادت شريعة الفوضى جاء أحد عملاء هذا «النظام» إلى السيد «إجه» عارضا عليه المسكن والمأكل، وسأله: هل تقبل أن تخدمني؟ ومضى السيد «إجه» يخدمه سبع سنوات بدون أن يقول كلمة واحدة، وسمن العميل من كثرة النوم والأكل وإصدار الأوامر حتى مات، وحمل السيد «إجه» جثته إلى الخارج ونظف البيت وتنفس الصعداء، وقال: «لا.» ثم يعقب السيد «ك» قائلا: أنا بالذات لا يصح أن يكون لي عمود فقري؛ إذ يتعين علي أن أعيش أطول مما يعيش الإرهاب.
ناپیژندل شوی مخ