وقد رأينا أن كل ما هو موجود فهو شيء، وكل شيء فهو في «أين»، بل كل فكرة فهي «في» ...
ولكن ماذا عسى أن يبقى من مكان سقطت منه «أين»، وفي أي عالم نجده وفي أي كون، والعالم والكون لا يمكن تصورهما بغير «أين»؟ إنه إن كانت قد سقطت عنه «أين» فقد بقيت منه «في» خالصة وباطنة، ولا تعرف الموضع ولا المحل، فالمكان الخالص إذن باطن خالص لا ظاهر له؛ وبالتالي لا يمكن التعبير عنه، كما لا يمكن للباطن أن يتخذ شكلا أو يظهر في مظهر.
من المكان الخالص بهذا المعنى تصل إلى العلو، إنه بلوغ الباطن الذي لا ظاهر له. والباطن الذي نعنيه يعلو بدوره على كل باطن وظاهر قد تعبر عنه لغة أو يلفظ به لسان.
هل سينتهي بنا فعل التعالي إلى الباطن؟
الأمر كذلك بالفعل، وليغفر لنا القارئ ما في هذه العبارة من مفارقة: إن التعالي هو في الحقيقة تعال إلى الأعماق.
ونعود الآن فنسأل: ما هو هذا التعالي أو العلو؟ ومن الذي يقوم به؟
الحق أن طبيعة العلو تبدو من الوهلة الأولى بسيطة غاية في البساطة؛ فالذهن ينصرف عند التفكير فيه إلى أمور ثلاثة: ذلك الذي نحاول أن نعلو عليه، وذلك الذي نريد أن نعلو إليه، وأخيرا ذلك الذي يعلو ويعاني عملية العلو نفسها .
ولكن من هو الذي يعلو ويعاني تجربة التعالي؟
العلو فعل، وكل فعل يفترض من يقوم به، والقائم به هنا هو الفرد الذي يعلو بالفكر ويحقق بذلك الفعل الفلسفي، أي الإنساني الأصيل، وقد يتبادر إلى الذهن أن المراد به ذات متماسكة ترتفع من منطقة إلى منطقة تعلو عليها.
والاعتراض الشكلي البسيط على هذا نجده في تعريفنا السالف للتعالي، فالذي يعلو على كل شيء يعلو بالضرورة كذلك على ذاته، على أن العلو على الذات ليس فرارا منها ولا إلغاء لها، وسنلجأ إلى ضرب من المفارقة في التعبير حين نقول: إن الإنسان الذي يعلو على ذاته هو وحده الذي يعود إليها بحق، ومصداق هذا هو ما نجده في تجربتي: الدهشة والقلق؛ ففي الدهشة الحقة، عندما يفتح الإنسان عينيه فجأة على الوجود فيسأله: ما أنت ولم وجدت ولم تكن بالأولى عدما؟ يتجلى كل شيء كأنه يستحم في نور جديد، ويصبح كل ما اعتدناه شيئا غريبا غير مألوف.
ناپیژندل شوی مخ