قلت: وإذا حدث أن أحدا جذبه بالقوة من هناك وشده على الطريق الوعر [إلى خارج الكهف]، ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذ بالألم والسخط؟ ألن يحس - وقد وقف في نور الشمس - بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئا مما يقال له الآن إنه الحق؟ - لن يقوى أبدا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل. - أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعود إذا كان عليه أن يرى ما هناك [أي خارج الكهف في ضوء الشمس]، إنه سيستطيع في أول الأمر [نتيجة لهذا التعود] أن ينظر في يسر شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكن أخيرا من رؤية هذه الأشياء نفسها [أي الموجودات الحقيقية بدلا عن انعكاساتها]، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما [يتجلى] منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى نور النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟ - لا شك في ذلك. - أعتقد أنه سيتمكن آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب، [وسيتمكن من النظر] إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها وفي الموضع المحدد لها؛ لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها. - من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك. - وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يجمل القول عنها [أي عن الشمس] فيعرف أنها هي التي تضمن [تعاقب] فصول السنة كما تضمن [مر] السنين، وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها [أي الشمس] هي علة كل ما يجده أولئك [المقيمون في الكهف] على نحو من الأنحاء حاضرا أمامهم. - واضح أنه سيصل إلى هذا [أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها] بعد أن تجاوز ذاك [أي ما كان ظلا وانعكاسا فحسب]. - ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر مسكنه الأول، وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه، والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له بينما يأسف لأولئك؟ - أسفا شديدا! - فإذا حددت في المكان القديم [بين من كانوا يقيمون في الكهف] جوائز وألوانا معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة، ثم ما يتبعها أو ما يتفق مروره معها في وقت واحد ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه [أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة] سيحس بالشوق إليهم [أي إلى الذين لا يزالون في الكهف] لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة؟ أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل غريب فقير» [أي أنه سيفضل - مثل أخيل - أن يعمل كأجير حقير في عالم العقل العلوي، على أن يكون ملكا في عالم الأشباح] وسيحتمل كل ما يمكن احتماله بدلا من أن يعتنق تلك الآراء [التي يؤمنون بها في الكهف] ويعيش على هذا النحو. - أعتقد أنه سيؤثر أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة [التي يعيشونها في الكهف].
قلت: والآن تفكر في هذا، إذا حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط مرة أخرى إلى الكهف وجلس في نفس المكان [الذي كان يجلس فيه]، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جدا أن يحدث له ذلك. - فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان [من الضوء] قبل أن تعودا سيرتهما الأولى - الأمر الذي سيستغرق منه زمنا غير قليل حتى يتعود عليه - [ألا تعتقد] أنه سيعرض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون أن يقنعوه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين مريضتين ، وأن الأمر لا يستحق أبدا أن يشق الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، [ألا تعتقد] أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه فسوف يقتلونه حقا؟
قال: يقينا سيفعلون ذلك (الجمهورية: 7، 14، 514أ، 2 إلى 517أ، 7). •••
ما معنى هذا الرمز؟ ماذا تدل عليه هذه الحكاية؟
إن أفلاطون يتولى بنفسه الجواب؛ فبعد الحكاية يأتي دور التفسير (517أ، 8 إلى 518د، 7)، فالمسكن الشبيه بالكهف صورة لمكان الإقامة الذي تقع عليه أعين من ينظرون حولهم كل يوم، والنار التي تتوهج خلف ظهور ساكني الكهف - أعلى منهم بقليل - هي صورة الشمس التي تسطع في الخارج، وقبة الكهف أو سطحه الذي تتطلع إليه عيون المساجين، تصور قبة السماء المزدانة بالقمر والنجوم. تحت فلك القبة يحيا الناس مقيدين بالأرض، إنهم يحسون أن ما يحيط بهم هو الواقع، وأن ما يرونه هو الحق. لا وجود إلا الوجود الذي يرونه حولهم، ولا حقيقة إلا لما تلمس أيديهم، إن كانت أيديهم تستطيع أن تلمس شيئا! في هذا المسكن الشبيه بالكهف يشعرون أنهم يعيشون في بيوتهم، ويقيمون في العالم، مطمئنين أن لا بيت لهم سواه ولا عالم غيره.
ولكن ما شأن الأشياء في خارج الكهف لا تنعكس إلا ظلالها على حائطه؟ هي رمز لما لا يقوم للموجود وجود إلا به، وما يجعله يتبدى على هيئته التي تراه بها العين، هذه الهيئة أو هذا المظهر الذي تتبدى به الموجودات هو ما يسميه اليونان الإيدوس أو الإيديا [المظهر، المثال].
والأشياء الموجودة خارج الكهف التي يغمرها ضوء النهار، ويتفتح عليها نور العين، هي رمز للأفكار أو «المثل» كما يسميها الفلاسفة، لو لم تقع عين الإنسان على «مظهر أو مثال» الكائنات من أشياء وبشر وأعداد وأشجار ... إلخ؛ لما استطاع أن يعرف أن هذا الشيء أو ذاك بيت أو شجرة أو إنسان إلخ، لكن الإنسان يحسب عادة أن يرى هذه الشجرة وذلك البيت وما أشبه ذلك من موجودات دون أن يخطر بباله أنه لا يرى شيئا مما يرى إلا على ضوء «المثل»، ولا أن ما يسميه بالواقع مما يرى ويسمع ويلمس ويعد ليس إلا انعكاسا لهذه المثل وظلالها، إنه يحيا حياته بين الظلال، والظلال تتحكم في حياته وعاداته وأحكامه، وتقيم حوله سجنا يحجب عنه نور المثل الساطع وراء جدرانه، إنه لا يدرك أن هذا السجن سجن، ربما لأنه سجن واسع بلا جدران؛ لذلك يظن أن حياته اليومية تحت قبة السماء هي مسرح تجربته الذي لا مسرح سواه، وهي التي يستمد منها المقياس والقاعدة لكل ما يربطه بالكائنات من علاقات.
ولكن ماذا عسى أن يحدث لو أن إنسان الكهف هذا التفت وراءه فجأة فرأى النار التي تتوهج، وعرف أنها هي التي تلقي على الجدار المواجه له ظلال الأشياء؟ لا شك أن تغيير النظرة لن يعقبه كشف الغطاء. إنه في الكهف يملك «الواقع» ويعرف «الحقيقة»، ولن يخطر بباله أن هذا الواقع ظل، أو أن هذه الحقيقة خيال. إن أقصى ما يمكن أن تأتي به أن تخل قليلا بالسلوك المعتاد دون أن تغيره، أو تزعج الظن المألوف دون أن تهدمه من أساسه، وأنى له أن يعرف شيئا عن الظلال، وهو لا يريد أن يعرف أي شيء عن النار التي تشتعل في الكهف أو عن الضوء المنبعث منها، مع أن النار شيء «مصنوع» ولا بد أن يكون مألوفا لديه؟ أما ضوء الشمس في خارج الكهف فهو على العكس من ذلك؛ شيء لم تصنعه يد الإنسان، فعلى نوره تتجلى الأشياء والكائنات تجليا مباشرا بغير حاجة إلى ظل أو انعكاس، إنه هو صورة المثل، أما الشمس فهي صورة لما «يظهر» المثل كلها أو هي صورة لمثال المثل جميعا، الذي قد نسميه مثال الخير.
ذلك هو التقابل الذي نقيمه عادة بين الظلال في الكهف وبين الواقع الذي نجربه كل يوم، بين ضوء النار المشتعلة فيه وبين النور الذي يغمر الأشياء من حولنا، بين المساجين المقيدين بالسلاسل وبيننا نحن البشر، بين الموجودات خارج الكهف وبين المثل، بين الشمس وبين مثال المثل، غير أن هذا التقابل لا يستنفد مضمون الرمز الغني كله؛ ذلك لأنه لا يكتفي بأن يروي لنا أحداثا تجري داخله أو خارجه فحسب، ولا يقف عند تقرير وضع الإنسان فيه أو فيما وراءه؛ فالأحداث التي يرويها لنا تصف كيف ينتقل الإنسان من الكهف إلى ضوء النهار، وكيف يعود من ضوء النهار إلى الكهف، ماذا يحدث في هذا الانتقال؟ كيف يتم؟ وما الضرورة التي تعود إليه؟ وما نصيبه من الأهمية؟
ناپیژندل شوی مخ