تأملنا العمل الفني حتى الآن من ناحية العمل نفسه، أعني من ناحية شيئيته وواقعيته، ولم ننظر فيه من ناحية الفنان، أعني من ناحية الخلق والإبداع. إن سلوك الفنان والصانع يكاد يتشابه، على الأقل من ناحية المظهر؛ فسلوك الخزاف والمثال والنجار والرسام يكاد يكون واحدا، والفنانون العظام كانوا دائما يقدرون الصنعة والصانع، ويعرفون أهمية الحرف اليدوية والمران اليدوي. ومن المعروف أن اليونان كانوا يطلقون كلمة واحدة على العامل اليدوي والفنان هي «تخنيتس»، ولكن هذه الكلمة لا تعني في الحقيقة أي نوع من أنواع الصنعة والإنجاز العملي، بل تعني أسلوبا من أساليب المعرفة، والمعرفة عندهم كانت دائما ضربا من الرؤية بمعناها الأعم، أعني إدراك الموجود بما هو موجود، وجوهر هذه المعرفة هو الحقيقة بالمعنى الذي ذكرناه، أعني تجلي الموجود وظهوره من الخفاء، «فالتخني» بهذا الفهم اليوناني إظهار للموجود من الغموض والخفاء بالمظهر الذي تراه العين منه، و«التخنيتس» ليس هو الصانع اليدوي، بل ذلك الذي يجعل الموجود يظهر على الحقيقة، أو يجعل حقيقته تظهر فيه. ولا عجب إذن أن تتوقف عملية الخلق في العمل الفني على طبيعة العمل نفسه، لا بوصفه شيئا مصنوعا بل باعتباره مجالا تحدث فيه الحقيقة. ولكن ما هي هذه الحقيقة التي تظهر في العمل الفني؟ وما مدى صلتها به حتى تظهر فيه؟ قلنا: إن الحقيقة هي عدم التخفي أو هي الجلاء بعد الاختفاء، وهي بهذا التعريف لا تبدو إلا من خلال الشقاق القائم بين الإيضاح والإخفاء، والحقيقة بهذا هي مهد هذا الشقاق الأصلي الذي يكافح فيه من أجل الوضوح أو الانفتاح.
وحين تظهر الحقيقة على هذا النحو في العمل الفني فليس معناه أنها لا تظهر إلا فيه (هل نستطيع أن نقول هذا والفنانون الحقيقيون هم أبعد الناس عن الغرور؟) إنها قد تظهر كذلك في تأسيس دولة أو في فداء بالروح ، أو في سؤال جاد عن معنى الحياة، أو في القرب من الوجود الحق .
فالحقيقة - بحسب جوهرها - تحب أن تستقر في الوجود؛ ولذلك فإن من جوهرها أيضا أن «تكون» في العمل، واستقرار الحقيقة واتخاذها شكلا في مثل هذا العمل هو إبداع للموجود الذي لم يكن من قبل ولن يتكرر من بعد، هو وضع له في الضوء والانفتاح، أعني في الحقيقة، وإنقاذ له من التخفي والانغلاق، أعني من عدم الحقيقة. إننا نستطيع أن نقول عنه الآن: إنه كائن وليس عدما، ولكن ألا يصح هذا عن كل موجود آخر، سواء أكان عملا فنيا أو يدويا أو أي شيء مسته يد الصنعة والصناع؟ ما الذي يميز العمل الفني عنها جميعا؟ يميزه عنها أننا نستطيع أن نقول عنه ما نقوله حين تظهر الحقيقة، أعني أنه «يكون»، ولكن أليس هذا شيئا عاديا؟ ألا نقول عن كل ما نراه أو نلمسه أو نستخدمه: إنه كائن؟ نعم ولا، فكل ما ذكرناه موجود حقا وكائن، ولكنه سرعان ما يسقط في النسيان ويهبط إلى التعود ويصبح مجرد أداة أو وسيلة، أما «الكينونة» في العمل الفني المبدع فهي أغرب ما فيه؛ ذلك لأنه «كائن» كهذا العمل الفني لا كشيء آخر سواه (العمل الفني لا يريد ولكنه «يكون»، إن له معنى ولكن ليس له غرض، سواء كان هذا الغرض علميا أم اقتصاديا أم إصلاحيا، إنه لا يقصد شيئا بل يدل ويشير)، وفي هذا التجلي والظهور على حقيقته تكمن وحدته وتفرده، وكلما توحد العمل الفني في انفتاحه على الوجود، وبدا كأنه يبتعد عنا؛ لأنه يبتعد عما ألفنا وتعودنا، خرج من عاديته وازداد منا قربا، أو بالأحرى ازددنا نحن من حقيقته اقترابا، هنالك نعود إلى حقيقته ونصمد فيها، أعني إلى الوجود الذي فتح أعيننا عليها، فهل من عجب إن قلنا بعد ذلك إننا نكون موجودين بحق حين نكون أمام العمل الفني الحق؟ ما أبعد هذا عن التجربة والتذوق وكل ما يبدأ فيه العلم ويعيد! وما أقربه إلى حقيقة العالم والوجود والإنسان! هذا الذي راح يكتشف العمل الفني فاكتشف نفسه، ويبحث عن الشيء والصنعة فيه فوجد الأرض التي انتزع منها، والعالم الذي جعل مقامه عليه، والوجود الذي أظهر الحقيقة فيه!
الفن هو الذي يظهر الحقيقة، في كل مرة يظهرها يبدأ التاريخ أو يعود فيبدأ من جديد، والفن بذلك تاريخي، إنه إبداع الحقيقة في العمل الفني والمحافظة عليها، هو تاريخي لا بالمعنى الخارجي للتاريخ - من تغير وتبدل في الزمان - بل بالمعنى الأصيل الخلاق من إظهار الحقيقة، ولا يكون ظهورها إلا في التاريخ. نحن نسأل عن حقيقة الفن، ولم نسأل عنها؟ لكي نعرف إن كان الفن في وجودنا التاريخي أصلا وحقيقة أو مجرد ادعاء ودعاية، وحين يصبح الفن أصلا وحقيقة حاسمة في حياتنا فسوف نعرف كيف نهيئ له المجال وللفنان الطريق، وكيف نساعد الإنسان العادي على أن يخرج مرة عن أفقه اليومي المعتاد إلى أفق الحقيقة والنور.
العمل الفني إذن هو مجلى الحقيقة والفنان هو مجليها. •••
ولكن لنحاول مرة أخرى أن نضع السؤال بطريقة أبسط، ونجيب عليه كذلك إجابة بسيطة، ما هو هذا الشيء الغريب الذي يبدو كأن لا أثر له، ومع ذلك فتأثيره لا حد له، ويستخلص من الحياة العادية، ومع ذلك فهو يلمس أعمق أعماق وجودنا، ونزنه بكل الموازين العملية فيبدو شيئا كماليا، ومع ذلك فلا غنى عنه لكل من دخل مرة في حياته؟
لنتصور إنسانا رزق موهبة الفن، أو لنقل على وجه التحديد: موهبة الرسم، ولنتصور أنه يلتقي بمحض الصدفة بشيء من العالم الخارجي كشجرة أو حيوان أو وجه إنسان؛ إنه يحس بشيء يلمسه أو يؤثر فيه، ينبعث من شكله أو لونه أو حركته ويدفعه إلى أن يعبر عن تأثره بالقول أو بالفعل، ويستعين بقدرته على التشكيل والتصوير في اكتشاف حقيقته أو خاصيته. إن كيانه الباطن ينفعل بهذا الشيء وتعروه حركة عجيبة، فهو يتفتح ويتلقى، وهو يستيقظ ويتوتر ويستعد للعمل، هذه الحالة الوجدانية التي يحس بها قد تختلف درجتها قوة أو ضعفا، فقد تكون لمسة خفيفة عابرة أو حالة من حالات التأثر الشديد والتسلط القاهر، إنه يحس عندئذ بأن لديه جهازا عضويا خاصا ينتبه إلى حقيقة الأشياء والأحداث، ويحاول أن يرصد شكلها المميز ويظهر طبيعتها الكامنة.
في مثل هذه الحالة الوجدانية يشعر الإنسان الذي تحدثنا عنه بأن لديه رغبة لا تقاوم في تناول هذا الشيء الخارجي الذي يراه أمامه، لا لكي يستغله في تحقيق غرض عملي كما يفعل الصانع الفني، بل ليخلقه من جديد، ولكن كيف يتم هذا الخلق الجديد؟ بأن يحاول إعادة تشكيله، فيبدع من المادة التي لديه - وهي في حالتنا هذه الألوان والسطح الذي سيرسم عليه - شيئا آخر يبدو شبيها بالشيء الذي وجده بالخارج، نقول: شبيها به، ونقصد بالطبع أن هذا الشبه تحدده طبيعة المادة التي أشرنا إليها، فالقماش الذي سيرسم عليه لا يقدم له إلا سطحا أملس، بينما الشجرة الحقيقية التي يريد أن يرسمها موجودة كجسم حي في العالم الخارجي، كذلك يحدده الأسلوب الفني السائد في عصره، فالرسام من عصر النهضة مثلا يرى هذه الشجرة بعين غير العين التي يراها بها فنان تجريدي حديث.
في هذا الفعل انتصار للفنان على الطبيعة، فهو فعل «خلاق»، يريد أن يبدع به عالما، ولكنه عالمه هو، هذا الخلق ليس شيئا إراديا متعمدا، ولكنه يخدم هدفا معينا، أي هدف؟ الوجود الإنساني. ولكن كيف يمكن للخلق الفني أن يخدم وجود الإنسان؟
قلنا: إن شكل الشيء الخارجي - ونعني بالشكل كل ما يمكن أن يدرك إدراكا حسيا من خط أو سطح، وبنية أو وظيفة، وحركة أو سلوك - يعبر عن جوهره وما يميزه، ويختص به ويعطي له معناه، هذا التعبير يكون في الشيء الخارجي ناقصا وغير محدد، والفنان هو الذي يحس برغبة تدفعه إلى إتمامه وإيضاحه، إنه يرى حقيقة الشيء تقترب منه فيضع نفسه في خدمتها، حتى يمكنها أن تتضح على نحو أكمل، لا بالأفكار والتصورات والنظريات كما يفعل العالم، بل على نحو حسي متصل بما يرى ويسمع ويلمس، إن شكل الأشياء يأخذ بيده ويتحكم فيه في نفس الوقت، فيقبل عليها ليستكمل بناءها أو يبسطها أو يكثفها أو ينظمها أو يفعل بها ما توحي به حاسته الباطنية التي أشرنا إليها لكي يرفع من درجة تعبيرها ويظهر طبيعتها المميزة. طبيعي أن هذا يذكرنا بالمحاكاة أو «الميمزز» التي تحدث عنها القدماء، ولكنها ليست تلك المحاكاة السطحية التي تنسخ الواقع، بل هي أعمق من ذلك بكثير، إننا نفهمها إذا تصورنا العلاقة بين الفنان والشيء الخارجي، كالعلاقة بين الممثل والشخصية التي يخلقها الشاعر أو الكاتب المسرحي؛ فالممثل يسخر كل طاقته على التشكيل وعلى قدرته على الرؤية في تجسيم هذه الشخصية في صورة حية، كما تفعل الطبيعة في الشيء نفسه، ولكن بصورة تتفوق عليها بقدر ما يتفوق الإنسان بفضل طبيعته العاقلة على الطبيعة، وحين يدرك الفنان طبيعة الشيء؛ يدرك في نفس الوقت حقيقته، لا إدراكا نظريا كما يفعل عالم النفس الذي يبحث الحياة النفسية الباطنة، بل على نحو حي مباشر؛ فالفنان حين يشعر بأن كيان الشيء يلمسه، يشعر كذلك بأن شيئا يستيقظ في كيانه هو.
ناپیژندل شوی مخ