خلاف حول الإنسان
بين كامي وسارتر
عندما ظهر كتاب «المتمرد» لألبير كامي في سنة 1951 استقبله معظم النقاد بالحفاوة والتقدير، واعتبروه من أهم الأحداث الأدبية والفكرية في فرنسا وفي أوروبا بوجه عام، وتعددت الآراء حول هذا الكتاب الذي يعالج قضية الثورة في الحياة الغربية منذ ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس على سلطان روما حتى الثورة الماركسية الكبرى، ويكشف عن مدى إخلاصها لطبيعة الإنسان وكرامته، أو انحرافها عن مبادئ التواضع والاعتدال وسقوطها في مأساة القتل والجريمة. قال عنه البعض: إنه كتاب لم يظهر له مثيل منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ووصفوه بأنه أحد الكتب الأساسية التي تسجل بنبلها وإنسانيتها بداية عهد جديد. وكان هناك اتفاق يشبه الإجماع على أنه - من الناحية الأدبية على الأقل - قد نجح نجاحا تاما، فلم يبق هناك أحد لم يتأثر بسمو عبارته تأثره بسمو تفكيره، ولم يختلف أحد من أصحاب اليمين أو اليسار على أسلوبه القوي الحساس الذي يكاد في جماله وشجاعته وحدته ألا يكون قد جرى على قلم كاتب أوروبي بعد نيتشه.
غير أن هناك كاتبا خرج على هذا الإجماع، وراح يحمل على الكتاب وصاحبه حملة شديدة كانت سببا في نزاع مؤسف أدى إلى القطيعة بين اثنين من أعظم المفكرين في عصرنا الحديث، فقد كان هذا الكاتب هو «فرنسيس جانسون»، مساعد سارتر في تحرير مجلته «العصور الحديثة» وأحد النقاد والمفكرين اليساريين.
لقد استفز كامي استفزازا جعله يرد عليه بلهجة غاضبة لا تخلو من التعالي والكبرياء؛ مما حمل سارتر على الإجابة على هذا الرد في لهجة أشد غضبا وقسوة. ومع أن الحساسية الشديدة للنقد كانت من أقوى الأسباب التي زادت من حدة هذا الخلاف، فإننا نستطيع اليوم - بعد أربعة عشر عاما من وقوعه - أن ننظر إليه نظرة هادئة تبعد عنه العوامل الذاتية المسرفة، وتوضح كيف أنه لم يكن في الواقع مجرد خلاف بين شخصيتين كبيرتين، بل شيئا ينبع من صميم العصر الذي نعيش فيه ولا يزال يشغله ويعذبه إلى اليوم.
يبدأ جانسون فيسأل هذا السؤال: هل يجوز لكتاب يعالج قضايا ينقسم حولها الناس وقد يقتتلون من أجلها أن يكتب بمثل هذا الأسلوب الجميل، أو يبلغ هذه الدرجة من سمو اللغة ونبلها وتعاليها؟ إن كامي نفسه يرفض الفنان الشكلي كما يرفض الفنان الواقعي، فهو في الفصل الذي وضعه عن «التمرد والفن» يدين الاثنين معا، ويقول : إن عيب الأول أن الشكل في أعماله يغرق المضمون، كما يأخذ على الثاني أن المضمون عنده يطغى على الشكل. كلاهما يبحث عن الوحدة حيث لا مكان لها، فإذا ظن أنه وصل إليها لم تكن سوى وحدة خادعة ومخدوعة، وإذا طبقنا هذا على أسلوب كامي وجدناه قد أغرق في الشكلية على حساب الروح الموضوعي التي يحتمها مضمون يتناول مسائل الثورة والتاريخ، وأسرف في الاهتمام بالأسلوب إلى حد وصل فيه إلى التطرف الذي وضع هو نفسه كتابه لإدانته. لقد قال في حديثه عن الأسلوب: «عندما يبالغ الكاتب في الاهتمام بالأسلوب والتظاهر به، يصبح عمله حنينا خالصا، وتصبح الوحدة التي يحاول اقتحامها شيئا غريبا على الواقع.» فهل ينطبق هذا القول على أحد كما ينطبق عليه؟ إن الكتاب كله صرخة احتجاج على التطرف والظلم والتنكر للإنسانية الحقة، ولكنه - على حد قول الناقد - احتجاج مفرط في جماله وجلاله وثقته بنفسه، مبالغ في دقته وكماله وتعاليه.
ويعود الناقد إلى إنتاج كامي السابق على «المتمرد» ليحلله من وجهة النظر هذه، فقد كانت روايته الوباء «تاريخا متعاليا» لمرض الطاعون الذي داهم مدينة وهران الجزائرية، وهي في ذلك تختلف عن روايته الأخرى «الغريب» في أن مرسو - بطل هذه الرواية الأخيرة - يرى العالم من وجهة نظر الذات الواقعية الوحيدة التي تجد نفسها غريبة بين ذوات أخرى واقعية، في حين أن مؤرخ الوباء ينظر إلى الأحداث التي تقع في المدينة من عل، ويكتفي بتأمل الموقف من خارجه؛ ولذلك فإن الوباء لا تمثل تحولا في تفكير كامي، بل تتابع المرحلة التي يعبر عنها كتابه الفلسفي «أسطورة سيزيف»، فقد تعلمنا من هذا الكتاب كيف نحافظ على العبث أو المحال، ونتمسك بالرهان الممزق العجيب معه، عندئذ يحتل الجسد والحنان والخلق والفعل والنبل الإنساني مكانه في هذا العالم الخالي من المعنى. كانت كرامة الإنسان تتمثل عند سيزيف في التمرد العنيد على قدره، والإصرار على مجهود يعلم أنه عقيم. وكان عليه أن يقتدي بهذا البطل الإغريقي فينتقل باستمرار من فعل إلى فعل ويواجه العالم، ويستزيد من الحياة بقدر ما يستطيع، ويستنفد طاقاته في سبيل لا شيء، ويفقد الأمل في إدراك معنى الوجود، ويتجرد من كل الأوهام التي تعده بالخلاص. وهكذا قدمت أسطورة سيزيف صورة منطقية أو منهجية لسلوك «الغريب» غير المنطقي ولا المعقول، ووضعت الإنسان أمام قدره الظالم غير المفهوم، وعلمته أن الإنسان غريب أمام نفسه وأمام العالم، وأن واجبه وكرامته معا في احتمال هذا الوجود العبثي وتحديه. ثم جاءت «الوباء» فعبرت عن هذه المعاني كلها على نطاق أوسع، فلم يعد الأمر هنا يتعلق بمصير فرد واحد، بل بمصير مدينة وقعت فريسة للطاعون وكتب عليها أن تحيا في حال حصار؛ ولذلك جاءت الرواية «ميتافيزيقية»، واستحقت أن تسمى «بالقدر الإنساني». فالمشهد الحقيقي الذي تدور أحداثها على مسرحه هو العالم كله لا مدينة وهران وحدها، وشخصياتها تعبر عن البشر جميعا لا عن رجال هذه المدينة ونسائها فحسب، والوباء الذي تروي قصته ليس هو الطاعون، بل الشر المطلق الذي يرزح بثقله على كل وجدان واع. غير أن هذا التشابه بين الموقفين كان في الحقيقة نوعا من الخطأ الذي يتحمل المؤلف وزره؛ لأن الانتقال مستحيل من أحدهما إلى الآخر، ولأن الصلة مقطوعة بين الوباء الذي يؤرخ له عقل خالص وبين القدر الإنساني الذي يحياه أناس واقعيون. ولعل أسلوب كامي هو الذي كان مسئولا إلى حد كبير عن هذا الخطأ أو عن هذا الوهم، فقد لجأ إلى أسلوب الرواية الذي يتميز بالتعالي والبرود، ويتأمل الموقف ولا يعيش فيه؛ ذلك لأن صراع البشر مع فيران الأرض لا يمكن أن يكون خاليا من المعنى إلا إذا نظرت إليه من أعلى، أما إذا عشت بينهم ووصفته من الداخل فستجد أن كل واحد فيهم يضفي على حياته معنى من المعاني؛ لأن مجرد الحياة في ذاتها لا بد أن ينطوي على المعنى، فإذا قررت أنها خالية من كل معنى فعليك عندئذ أن تضع لها حدا؛ لأن المنتحر هو وحده الذي يقرر ألا يقرر شيئا ...
كان كامي إذن يعيش في تناقض مستمر لم ينكره لحظة واحدة من حياته، فهذا العقل الذي يحب الوضوح، وهذه الروح التي تمجد النور، قد وجدت أنها تصطدم كل يوم بتناقضات العالم وعذاب البشر، حتى اعتقدت أن الإنسان قد حكم عليه ظلما بأن يعيش، وهو الكائن العاقل في عالم غير معقول، وأن ينشد الوحدة والانسجام وسط التناقض والاضطراب، وهو لذلك لا يملك إزاء هذا «الظلم الميتافيزيقي» سوى أن يقابله «بالشرف الميتافيزيقي» الذي يمكنه من الصمود لعبثية العالم، والتمرد عليها كذلك تمردا عبثيا. كذلك يفعل الدكتور «ريو»: بطل الوباء الذي يتحدى المرض ويحاول أن ينتزع من بين مخالبه أكبر عدد من الأحياء، وإن كان يؤمن مع ذلك أن كفاحه عقيم، وأن الوباء لا بد أن ينتصر عليه في النهاية.
حاول كامي إذن في أسطورة سيزيف أن يثبت وجود العبث أو المحال ويثبت معه أن الوعي به لا يؤدي إلى الانتحار بل إلى التمرد، ثم عكف سنوات عديدة على وضع «مقاله» عن التمرد، وفيه ينتقل من الفرد إلى المجموع، ومن قدر ظالم مقدور إلى قدر آخر مفروض على الناس، فهو يتأمل في هذا الكتاب حقيقة العلاقة بين التمرد والجريمة، وبالأخص تلك الجريمة التي يصفها بالجريمة المشروعة أو الجريمة المنطقية أو الأيديولوجية، وهو يسأل إن كان من الممكن أن يؤدي التمرد - الذي هو بطبيعته احتجاج على قدر ظالم وغير مفهوم - إلى تبرير الجريمة الشاملة والقتل الجماعي، أو إن كان من الممكن على العكس من ذلك أن نكتشف فيه مبدأ ذنب معقول؛ فالفعل التاريخي لا يستطيع أن يدعي البراءة. والمهم أن نعرف إن كان في طاقة الإنسان أن يعصم نفسه من الانزلاق إلى الذنب الشامل، ويلتزم بلون من التمرد المعتدل الذي يحتج على الظلم والعبودية والمهانة في الوقت الذي يؤكد فيه طبيعة الإنسان وكرامته. فالعبد الذي يتمرد على طغيان سيده ويقول له: «لا»، إنما يقول في نفس الوقت «نعم»، ويؤكد قيمة إنسانية لا ينبغي أن تهدر أو تهان؛ لأن البشر جميعا من مظلومين وظالمين يشاركون فيها بنفس المقدار، وبذلك يكون التمرد - الذي هو أصله تعبير عن صرخة ذات وحيدة - تأكيدا للتضامن بين البشر، فإذا أنكر هذا التضامن فقد اسمه وانحرف إلى القتل والجريمة. كان تمرد سيزيف تعبيرا عن سخطه على الموت وعاطفته الجياشة بالحياة، وكان إنكارا للآلهة وتحديا للمحال أو العبث؛ ولذلك فقد كان من الممكن أن يظل تمردا وحيدا، أما التمرد الذي نتحدث عنه الآن فهو ينتزع الفرد من وحدته، ويجعل الإحساس بالغربة التي كان يقاسيها والشر الذي كان يعانيه وحده وباء «مشتركا» بينه وبين الناس. وبذلك يصبح التمرد هو الحقيقة الواضحة الأولى التي تجمع البشر على قيمة واحدة، كما يصبح من المستطاع أن نقول: نحن نتمرد، فنحن إذن موجودون.
وهكذا ينتقل كامي إلى دراسة التمرد الميتافيزيقي الذي يصفه بأنه حركة يواجه الإنسان بها قدره والخليقة بأجمعها، محاولا أن يسترد الوحدة السعيدة ويتخلص من عذاب الموت والحياة، ثم يبين بعد ذلك كيف يتحول هذا التمرد المتافيزيقي إلى تمرد تاريخي؛ فينسى أصله ويتنكر لمنبعه ويزحف إلى السيطرة على العالم خلال جرائم لا نهاية لها، بعد أن كان في مبدئه احتجاجا على الموت والشقاء، ومحاولة «لغزو الوجود الذاتي وإبقائه في وجه الله» ويكون لويس السادس عشر أول ضحية لهذا الانحراف التاريخي، وتقيم الثورة الفرنسية نظاما من القهر الذي لا ينتهي، وتنشئ الجمعية الوطنية نظاما مطلقا جديدا؛ فتجلس الفلسفة على العرش بعد أن طردت الله من السماء، من ثم يفلت التمرد الإنساني الأصيل من كل الحدود ليصبح ثورة ميتافيزيقية تجلت في ثورات العصر التي حاولت أن تؤله النوع البشري، أو تنطلق إلى الغزو الشامل للعالم، أو تقيم مملكة غيبية في نهاية التاريخ، فتشوه وجه التمرد الأصيل في كل الأحوال.
ناپیژندل شوی مخ