10
وكما يلعب الفنان والطفل لعبهما البريء، فكذلك يلعب العالم مع نفسه، وكذلك تلعب النار الحية الخالدة، فهي تتحول تارة إلى ماء وتارة أخرى إلى أرض، وتبنى وتخرب كما يبني الطفل قصورا من الرمال على شاطئ البحر ثم يملها فيهدمها.
ولكن وراء هذا المهرجان البهيج الذي يتقلب عليه النور والظلام، واللعب والضرورة، والهدم والبناء، يكمن القانون والعدالة والنظام، أو ما يسميه في كلمة واحدة ب «اللوجوس»، «إن استمعتم إلى اللوجوس ولم تستمعوا إلي، فإن من الحكمة أن تتفقوا على القول بأن الواحد هو الكل.»
11
كلمة مشهورة من كلمات هيراقليطس، أو شذرة من الشذرات المأثورة عنه. الكلمة تتحدث عن الاستماع والإنصات إلى اللوجوس (المعنى أو العقل أو الكلمة أو المقال)، كما تتحدث عن المفكر الذي ينصت مع المنصتين ويدعوهم إلى الاستماع إلى صوت الحقيقة لا إلى أصوات الفانين، إنه يعبر لهم عما يقوله «اللوجوس»: الواحد هو الكل، ويكاد أيضا أن يقول: الكل هو الواحد، غير أنه لا يعطيهم حكمة مريحة توفر عليهم مشقة التفكير، ليستخدموها في شئونهم اليومية مثلما يلجئون إلى حكمهم البليدة المأثورة، بل الأولى أن يقال: إنه يسير بهم على طريق شاق عسير، لعل معاصريه لم يطيقوا السير عليه، ولعله يبدو لنا نحن بعد أكثر من عشرين قرنا وقد ازداد مشقة وعسرا.
الواحد هو الكل، والكل هو الواحد
ما أسهل أن ينطق اللسان بهذه الكلمات! وما أسرع ما يوهم نفسه بأنه قد فهم معناها وأدرك المراد منها! ولكن ما أكثر المعاني التي تعشش في هاتين الكلمتين: الواحد والكل! قد ترد الكلمتان على لساننا للتعبير عن فهم سطحي أو تصور من تصوراتنا اليومية العابرة، ألا نقول في حديثنا اليومي حين يفيض بنا الملل أو عدم الاكتراث: كله واحد؟! كأنما نحاول بالحكمة المتعبة الكسولة أن نتخلص من همومنا ومتاعبنا؟! ألا نلجأ إلى هاتين الكلمتين فنصنع منهما قالبا نضع العالم كله فيه، أو نؤلف منهما صياغة نفسر بها الكون كله؟ ومع ذلك فقد تطوي الكلمتان كل مشقة التفكير وكل كتمان المفكر، عندئذ نحاول أن نقتفي خطاه ونسير على طريقه، لا نكاد نملك إلا السؤال الذي يولد السؤال، والترجمة المألوفة لكلمة هيراقليطس المحيرة - وكل ما قاله هذا المفكر المظلم محير! - نقول: إن من الحكمة أن ننصت لما يقوله «اللوجوس»، وأن ننتبه إلى معنى ما يقول: إن الواحد هو الكل، فاللوجوس يقول شيئا، أو بالأحرى يريد أن يعلن عن شيء، هذا الذي يقوله ويريد أن يعلنه هو: الواحد هو الكل، أو الكل هو الواحد.
ولكن هل في وسعنا أن نزعم أننا نفهم ما يقوله اللوجوس؟ وكيف نتصور أن الكل هو الواحد، أو الواحد هو الكل؟ إن هذه الكلمة تحيرنا وقد كنا ننتظر منها أن تهدينا، وربما كان عزاؤنا الوحيد معها أن نعرف أن من الخير دائما للفكر أن يتجول بين أحراش المجهول بدلا من أن يسير على الطريق الهين اليسير، وأن يتعذب ويقلق بدلا من أن يخلد إلى الراحة والسكون، فقد عذب المفكر اليوناني المبكر سؤاله عن الموجود، فكان هذا السؤال هو نقطة انطلاقه، وكان «اللوجوس» هو الأحرف الأولى لقدره ومصيره. وإذا كان العالم كله اليوم يطبق نماذج العلم الغربي والتكنيك الغربي، فلم تكن هذه النماذج المعقدة إلا نهاية تطور طويل بدأ بسؤال الحكم اليوناني الأول عن طبيعة الموجود.
12
الواحد هو الكل، هو التعبير عن طبيعة اللوجوس، واللوجوس يقول لنا كيف يكون الواحد هو الكل، ذلك أنه يجمع الأضداد المتفرقة في ذاته، كما يجتمع الليل والنهار، والخريف والصيف، والحرب والسلام، واليقظة والمنام. واللوجوس هو وحده الذي يقدر لهذه الأضداد المتباعدة أن تجتمع فيه، وهو وحده الذي يحملها على التجلي والظهور، فإذا نحن استمعنا إلى ما يقوله «اللوجوس» استمعنا إلى حقيقة «الكل» التي اجتمعت في «الواحد»، الواحد الأبدي الخالد يتحدث إلى هيراقليطس وإليه وحده، ماذا يقول؟ يقول: إن الواحد هو الكل، وكل ما في الكون من موجودات - مهما قل شأنها وتضاءلت قيمتها - فهي عنده الحقيقة كلها، وما خرج عن الأصل والمنبع فلا بد أن يرتد إلى الأصل والمنبع من جديد.
ناپیژندل شوی مخ