من بين الخطابات الكثيرة، حين قرأت هذا الخطاب «طب» قلبي رعبا، أو فرحا أو شعورا غامضا لم أحس به من قبل، لا أعرف، أخذت الخطاب وطبقته بعناية ومعه الظرف، وإلى أن عدت إلى منزلي بعد ساعات طويلة كنت دائم الإحساس بوجود الخطاب في جيبي يتحول، من كلمات غريبة وكأنها رسوم الآراميين على معابدهم، إلى ما يشبه التعويذة، إلى شيء دافئ حميم وأنه قطعة من ضمير مصر تكورت داخل جيبي.
وقبل أي شيء آخر سأعرض لكم الخطاب، وكنت أفضل لو كنت طبعته بالزنكوغراف لتروا كيف كتب، لولا علمي أن كثيرين منكم لن يستطيعوا فهمه ربما لرداءة الخط أو اللغة أو حتى الهجاء؛ ولهذا آثرت أن أتعب نفسي في حل ألغازه، وأنشره، بنفس لغته.
الكاتب الحقاني يوسف إدريس
باكتب لحضرتك الجواب ده ومعلش أنا ابتدائية قديمة وبافهم كلامك في الجرنان لأنه سهل وحقاني، وعلشان كده اسمع حكيتي (حكايتي)، بيقولوا مين شاف منكر لازم يغيره بإيديه، ولو مقدرش بلسانه، ولو مقدرش بقلبه، وده أضعف الإيمان، مش كده؟ طيب، أنا ممرضة وعندي بنتين بيشتغلوا في الشركة المصرية ... (لا تؤاخذوني لم أذكر اسم الشركة لأني أخاف على صاحبة الخطاب من الانتقامات الجبانة) بنتين: ماجدة متجوزة ومبسوطة والتانية لسه مخطوبة، واحنا ناس على أد حالنا ورأس مالنا جمال البنات وشرفهم، وبعدين بنتي الصغيرة مرة جت تعيط وتقول بإن زميلتها اللي بتشتغل في قسم الهندسة وأن مهندس كهربا فضل يعاكسها وهي تصده لغاية ما ضحك عليها وهي متجوزة من مدة بسيطة، وأخدها يوصلها لبيتها لأنها سكرتيرة معاه وراح جنينة (...) وهناك هجم عليها، وصدفة شفهم البوليس وهي بتصرخ وبقت قضية، البنت اترفدت وطلقها جوزها، وهي كانت بتصرف على أمها لأنها يتيمة اتظلمت، أما اللي ضحك عليها فإدارة الشركة نقلته لحتة تانية في المخازن وبعدين جه مدير عام صاحبه قوي أول حاجة عملها أنه بالرشاوي والهدايا رجعه مدير زي ما كان، وعشان البنات بيشتغلوا بعقد 6 شهور بس يتجدد لو وافق مدير عام الهندسة، الاثنين يستغلوا الفرصة من غير ضمير مع البنات ضد الأصول والدين والقانون، وبعدين جه خطيب بنتي وهو مهندس كبير بالمراكب، وكان غلبان زي حالنا وبعدين لقيته بيجيب هدايا بهبالة وكتير قوي وبعدين اشترى عربية بلونور (بولونيز) قلت: منين الفلوس دي كلها؟ ضحك وقال: شيلنى وأشيلك، فقلت: يعنى ايه، مخدرات؟ ضحك وقال: لا أنا باشتغل في مراكب البحر الأحمر ومفتش هندسي (...) مريض بالفلوس، وكل حاجة النص بالنص وكل الهدايا لما بطلبها بيكون جايبنها، وكل الإصلاحات أو أي حاجة عايز أشتريها من بره وكله بثمنه. قلت له: مش فاهمة. قال: مدير عام الهندسة جاهز وبيوافق على اللعب ما دام شيلني وأشيلك. فقلت: بس ده مال حرام ده مال حرام والمراكب والناس اللي فيها ممكن يجرا لهم حاجة. ضحك وقال: هو حد حاسس أو شايف؟! ما هو المراكب بتتعطل وأدي مركب الطقم محبوس في ألمانيا علشان الحاجات لما ركبوها كانت خسرانة، والسرقات شغالة على ودنه، هو أنا بس؟! تعالي شوفي زمايلي عندهم عربات وفلوس وعمارات زي الرز، والبركة في المدير الجديد. وحضرتك يا دكتور هل يرضيك قلة الشرف والنصب ده وفين المباحث والوزير، أنا ح افك خطوبة بنتي لأن ده مال حرامي بس ما اقدرش أخليها تسيب الشغل لأنها بتصرف علينا وأبوها ميت، بس هي خايفة ليجبرها على الرذيلة أو يضحكوا عليها وتبقى فضيحة، أرجوك احمينا قبل ما تقع الفاس في الراس، السلام.
الحاجة أم هاشم
بلوك المساكن الشعبية (...)
إني آسف أني أخفيت عن عمد بعض التفاصيل والأسماء، ولكن الخطاب عندي وتحت تصرف السيد سليمان متولي وزير النقل والمواصلات.
ولكن حتى وزير النقل لن يستطيع حمايتك يا سيدتي؛ فالفساد قد استشرى في بعض القطاعات إلى درجة يعجز أي وزير بشري عن إيقافه.
بل وأنا أرفع هذه الكلمة إلى الرئيس محمد حسني مبارك لا أرفعها نيابة عنك وإنما أرفعها نيابة عن كل سكان البلوكات والعرب والقرى والشقق، عن كل الذين لم يدخلوا بعد في «اللعبة»، عن الذين لا يزالون يصرون أن يعيشوا بشرف وفي شرف، عن الخائفين على أولادهم وبناتهم من عصر قادم يأكل الناس فيه بعضهم بعضا ويتحولون إلى ذئاب بشرية لا ترحم أحدا.
نعم الفساد يا سيادة الرئيس موجود بشكل ويأتي في الإدارة الحكومية والقطاع العام وحتى الخاص، وهو فساد لست أنت صانعه، إنما بلاء حتى في ظل الثورة وحكم الرئيس جمال عبد الناصر؛ فلقد سمعته مرة في خطاب عام يقول: إنني حينما أضع ميزانية لمشروع أعرف أن 10٪ على الأقل منه ستذهب سمسرة وسرقات. ولقد روعتني هذه الكلمات حقا أن يصرح رئيس الجمهورية بأنه غير قادر على إيقاف السرقات، وأي رئيس جمهورية، وجاء عصر ما بعد عبد الناصر لتزيد ال 10٪ أضعافا مضاعفة.
ناپیژندل شوی مخ