مدینه فاضله
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
ژانرونه
لكي نفهم لم انصرف الفلاسفة عن النظر العقلي الخالص إلى التاريخ والأخلاق والسياسة، يجب أن نبدأ بأن نتذكر أن القضية العقلية الكبرى كانت قضية وجود الله، فتساءلوا: هل العالم يحكمه عقل خير أو تتحكم فيه قوى لا تعرف خيرا ولا شرا، وكان سؤالا حير الألباب.
فأما الملحدون فقد كانوا قلة افتتنوا بالعقل أيما افتتان، وجهروا بإلحادهم، وأعلنوا أن العالم لا خير ولا شر، بل هو قابل لأن يكون خيرا، لو عرف الإنسان كيف يدبره، وقابل لأن يكون شرا لو قصر في ذلك.
وقابل الكافة الإلحاد بالاستنكار، أما الفلاسفة فقد تعللوا بعلل شتى، لعدم متابعة الموضوع، فمنهم من قال: إن النظرية الآلية للكون قد تكون صحيحة، ولكن الأخذ بها ليس في المصلحة، ومنهم من اعترف بقصور العقل عن إثبات شيء ما في الموضوع، فآثر الصمت أو الاشتغال بشيء آخر، ومنهم من قال: إن المهم هو أن نصدق بوجود الله، فهذا لازم للعامة على وجه الخصوص، ومنهم من أعرض عن الإلحاد لإدراكه أن التسليم به معناه الاعتراف بإخفاق الفلسفة فيما قصدت إليه، وكأنهم بذلك قد أيدوا ما ذهب إليه خصومها من أنها تؤدي إلى هدم الأخلاق والنظام الاجتماعي، ومنهم من رأى أن الأجدى بهم أن يشتغلوا بشئون الإصلاح على الوجه الخليق بالفلاسفة؛ أي بالجمع بين الجد وتدفق العاطفة بدلا من أن يفضحوا قصور العقل وضعف دعائم المعرفة.
تقهقر الفلاسفة على هذا النحو من موقفهم العقلي الخالص إلى وضع مناهج الإصلاح العملي، وبدءوا بالتمييز بين العادات والسنن الصالحة بالطبع والأخرى الفاسدة بالطبع، ويقتضي هذا إيجاد المثال المشترك للطبيعة الإنسانية، وإيجاد هذا المثال المشترك يكون عن طريق يضيئه نور العقل ونور التجارب معا؛ أي نور التاريخ، ولكن بشرط أن يكون تاريخا من نوع جديد.
وكل عصر يطلب تاريخا «جديدا»؛ فروى القديس أوجسطين قصة الإنسان لعصره، وطلبت العصبية القومية تاريخا يمجد الملوك أو الشعوب، وطلبت البروتستنتية تاريخا يؤيد دعواها، والكاثوليكية كذلك، وفي القرن السابع عشر حينما خفت حدة الصراع بين الفرق شيئا ما، قام عصر التحقيق في وقائع التاريخ، ولكنه لم يرض القرن الثامن عشر؛ «فالتحقيق» أخرج نوعا من التاريخ فاترا كليلا، والكتب التاريخية العامة التي وصلتهم لم ترضهم؛ لأنها إما أن تكون قد قامت على أساس الصورة الواردة في الكتب المقدسة، وإما أنها لا تحتوي إلا على الحروب والوقائع والمعاهدات والأنساب والمصاهرات، فكان الجواب إذن ألا يكتب التاريخ الجديد إلا الفلسفة.
نرى إذن أن لا وجه لما زعموه في القرن التاسع عشر عن عصر الاستنارة من أنه كان «لا تاريخيا».
ويتلخص المنهج المثالي للمؤرخين في القرن الثامن عشر في ملاحظة ما كان للشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة من أفكار وعادات ونظم، ثم المقارنة بينها، ثم حذف ما كان يبدو خاصا بمكان أو بزمان معين، والحاصل هو المشترك بين بني الإنسان أجمعين، وهو زبدة التجارب، ومنه تستخرج المبادئ الثابتة للطبيعة الإنسانية، فالمنهج هو الطريقة الموضوعية الاستقرائية العلمية.
هذا هو المنهج المثالي، ولكن الواقع كان شيئا آخر، كان الواقع أنهم بدءوا، وقبل أن يرجعوا للتاريخ، بحصيلة من المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية، ولم يرجعوا للتاريخ إلا ليلتمسوا فيه إثباتا وتأييدا لها؛ أي إن ما أنكروه على الدينيين من تحريفهم التاريخ لينطبق على الكتب المقدسة وقعوا هم فيه أنفسهم، وصح بذلك ما عبر عنه فولتير في قوله: ما التاريخ إلا حاصل احتيال الأحياء على الموتى!
وبعد فما هي المبادئ التي قلنا إنهم بدءوا بها: (1)
إن الإنسان ليس آثما خسيسا بالجبلة، بل هو طيب ميال لاتباع العقل، كريم رءوف سمح، هدايته بالنصح والإغراء أسهل من قيادته بالقسر، مواطن صالح، رجل فضيلة، يقدر تماما أن الحقوق التي يطلبها لنفسه هي حقوقه وحقوق غيره، وهي طبيعية غير قابلة للتقادم، وأن تمتعه بها يقتضي منه أن ينزل طوعا على حكم الحكومة العادلة، فيلتزم بما ترسم من التزامات، ويذعن لما تفرضه من حدود من أجل الصالح العام. (2)
ناپیژندل شوی مخ