مدینه فاضله
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
ژانرونه
57
وأما المواسم التي تحييها فهي أيام الثورة الكبرى، وأما قديسوها فهم الأبطال والشهداء الذين رفعوا لواء الشيوعية، وتحتل صورة لينين في بيوت المؤمنين المكان الذي احتلته سابقا الأيقونات المسيحية المقدسة، وكل يوم يحج إلى قبره العاملون من أبناء الشعب في بناء النظام الجديد، كما كانوا يحجون سابقا إلى الآثار المقدسة، وثم جانب آخر للاتفاق فيما بين الثورتين ذلك أن الثورة الروسية تثير في عقول - أو بالأحرى - في صدور أعدائها ما أثارت الثورة الفرنسية في خصومها من بغض ونفور لا يستندان إلى العقل بقدر استنادهما إلى الشعور، وهذا الشعور بالنفور والبغض يتكون في حالة الثورتين من الخوف والغضب، وهو في الحالتين أيضا يتنبه آليا حينما تذكر كلمات معينة، فكانت كلمات الثورة واليعقوبية والجمهورية في نظر كاسلريه ومترنيخ
58
وأمثالهما من الساسة في مؤتمر فيينا سنة 1815، تحمل معاني الشر المطلق متمثلة في وقائع معينة، وكلمة الثورة عند التخصيص كانت تنصرف إلى الثورة الفرنسية في 1789، ولكنها أصبحت ذات مدلول عام، تفيد الثورة إطلاقا؛ إذ إن الثورة الفرنسية في نظرهم مثال فكرة الثورة، وفكرة الثورة في نظرهم فكرة الهدم، فكرة الإنكار والسلب، وروح الإنكار المستديم تتجلى في الفوضى في الحكومة وفي الإلحاد في الدين، والثورة هي اليعقوبية، واليعقوبية هي الجمهورية، والثابت على كل حال أن المعاني الخيالية التي عبرت عنها هذه الكلمات قلبت أوروبا رأسا على عقب زهاء ربع قرن من الزمان، واستشهد الرجعيون بهذا لتأييد ما ذهبوا إليه من أن تلك المعاني مستحيلة التحقيق، وأنها خطر يهدد الأوضاع المقررة والأمن والرخاء وخير الإنسان، وهذا بالضبط ما يقوله نظراء كاسلريه ومترنيخ في أيامنا عن البلشفية، فهي في نظرهم عدو كل عقدة، فهي لهم ما كانته اليعقوبية لرجال 1815، وتحمل كلمة السوفيت وكلمة الشيوعية لنا - ورثة الديمقراطية السياسية - من معاني الإنذار بالويل والثبور ما حملته كلمة الجمهورية لورثة عهد الملوك والأرستقراطيين.
ولو قدر لكاسيلريه ومترنيخ أن يطلعا في سنة 1815 بعين الغيب على ما تحقق قبل نهاية القرن التاسع عشر من غلبة العقائد اليعقوبية التي نعتوها بالفوضى والإلحاد على الأوضاع الموروثة عن الملوك والأرستقراطيين في العالم الغربي بأسره لهالهم هذا هولا شديدا، وخليق بنظراء كاسلريه ومترنيخ اليوم، بل خليق بنا نحن - معشر الذين لا يصرفون شئون الحكم - أن نتساءل عما عسى أن يكون بعد مائة سنة، ترى أتكون كلمة الدين الجديد هي العليا (ولتسم هذا الدين ما شئت؛ دين الإنسانية أو دين اللا إنسانية!) ترى أتعلو كلمة هذا الدين؟ بغض النظر عما إذا كان هذا سيتم تدريجيا، وبغض النظر عمن أو عما يتولى الوقوف ضده، وبغض النظر عن ترخص الشيوعيين وتساهلهم مع خصومهم، وبغض النظر عما إذا كانوا سيخففون من غلوائهم وتعصبهم وبطشهم بأعدائهم، ليس هذا بالمستحيل، ومائة سنة ليست بالمدة القصيرة، بل إننا نسمع الآن هنا وهناك، بل وفي معقل الرأسمالية كلاما عن إفلاس نظام التنافس المطلق، وتدور بين الناس اقتراحات وآراء شتى قد تكون في ذاتها مترددة متهيبة، ولكنها تدل على أن أصحابها ممن يرون لزوم تنظيم الحياة الاقتصادية وتوجيهها.
وهذه الكلمة «التوجيه» من الكلمات التي بدأ استعمالها، وقد بدأ ذلك دون أن يتنبأ الناس كثيرا لكل ما تحمل من معان، وحتى الآن لم يذهب القائلون بالتوجيه بعيدا قولا أو فعلا، بل كل ما هنالك بوادر، فمن ذلك ما اقترحه أحد كبار المواطنين من وجوب إزالة ثلث صفوف القطن في كل حقل من حقوله، ومن ذلك أيضا ما حدث في بعض الولايات الأمريكية من استعانة حكامها بالجيش في الإشراف على استخراج الزيت، وهذه أمثلة فردية للتوجيه، وليست نظاما إنشائيا للتوجيه، ولكنها هي وأمثالها وما صحبها وأمثالها من خوض في موضوع التوجيه، وما فعله أو يفعله كبار أصحاب المناصب في نطاق شئون الحياة الاقتصادية، يدل على الأقل على أن هناك شعورا بأن مجتمعنا وقد أصاب ما أصاب اليوم من التقدم في استعمال الآلات، وملك ما ملك اليوم من موارد القوة هو أحوج إلى الإشراف والتوجيه منه إلى الحرية، وأن النظام الاقتصادي اللائق به لهو النظام الذي يقوى فيه جانب التوجيه، ويضعف تبعا لذلك جانب إطلاق المنافسة، ومهما يكن من أمر فلا يزال في الوقت فسحة، ومائة سنة ليست بالشيء القليل، وقد يحدث في أثنائها أن يعم النظام الاقتصادي الموجه - ولنسمه كذلك أو لنسمه الشيوعية - العالم الغربي بأسره، تبعا لإيقان الشعوب بأنه النظام الوحيد الذي يحقق للإنسان عدالة اجتماعية وأمنا ورخاء وخيرا، إن كان هذا هو الذي يضمره الغيب لنا فليس بمستبعد أن الخلف في سنة 2032 سيحيي ذكرى حوادث نوفمبر 1917، على اعتبار أنها كانت مبدأ تحول سعيد في تاريخ الحرية الإنسانية، وهذا يماثل احتفالنا سنويا بيوليو 1789.
وبعد فما الرأي الذي يجب أن نراه في يوليو 1789 ونوفمبر 1917 وما إليهما من «أيام» الإنسانية الكبرى؟ هل هي بوادر الاقتراب من الأوتوبيا؟ وما السؤال الذي يجب أن نقف عنده؟ أيجوز لنا أن نرى في الثورة الروسية في القرن العشرين مرحلة أخرى من مراحل تقدم الإنسانية نحو الكمال، كما كانت الثورة الفرنسية في دورها مرحلة من مراحله؟ أو يجوز لنا أن نقول ما قاله ماركس أورليوس: «إن الرجل في سن الأربعين - إن كانت له حبة من الفطنة - يكون قد رأى بموجب ما بين الأشياء كلها من مماثلة كل ما كان وكل ما سيكون؟»
ناپیژندل شوی مخ