مدینه فاضله
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
ژانرونه
هذه طبعا كانت ما عرفوه باسم العصور المظلمة عصور الجهل والخرافة والطغيان، عصور تسودها الفلسفة المسيحية بلا منازع، عصور تضاد العقل والحجا، وأما العصور التي نعمت فيها البشرية بالسعادة حقا، فهي أيضا معروفة تماما، وليس هناك ما يدعو لبذل أي جهد في سبيل تعيينها، وهذه أقاموها بجانب العصور الوسطى؛ لكي يسطع نورها متألقا بإزاء ظلام الأخرى، وأشهر العصور السعيدة عندهم عصرا بريلكيس وأجسطوس الذهبيان، ولا بدع في هذا، فالفلاسفة جميعا - أو تقريبا جميعا - قرءوا في صباهم في دور التعليم كتب الأقدمين من يونان ورومان (وفي الغالب على معلم يسوعي أو بندكتي!)
49
وتعلموا من كتب الأقدمين، مما لفقه رولان من أشتات تواريخ الأقدمين أو من بلوتارك على وجه أخص، منه ومن التعليقات التهذيبية التي عشرها في المتن مترجمو بلوتارك وناشروه، تعلموا من هذه كلها أي الأبطال اليونان والرومان يحتذون، وأي الفضائل الأسبرطية أو الرومانية يبارون.
50
هذان العصران الذهبيان سبقا العصور المظلمة، وثم عصور ذهبية أخرى جاءت بعدها، من هذه حركة «البعث» أو النهضة الأوروبية، ومنها عصر لويس الرابع عشر والقرن الثامن عشر نفسه، ولا يخفى على أحد ما قدم هذا العصر الأخير إلى ما خلفه، والعصر اليوناني والعصر الروماني وعصر النهضة من نور وعلم، ومن حرية وفضيلة، وحصل بهذا الفلاسفة المؤرخون على ما سماه فولتير «العصور الأربعة السعيدة» يقابلون بها العصور المظلمة، فيظهرون الناس على ما جنت الفلسفة المسيحية على العقل الإنساني، حين كبلته في أغلال لا يجد منها فكاكا، وحين نالت منه ما ينال الكائن الطفيلي من النبات يتعلق به حتى يميته، هكذا كانت جناية الفلسفة المسيحية على العقل! ألا ترى إذن كم غنمت البشرية حين كسرت أصفادها، وانطلقت حركة «البعث الأوروبي»؟ على أن الغنم كان أكبر من هذا كثيرا؛ إذ إن حركة الكشف الجغرافي فتحت آفاقا أخرى جديدة، فلم تعد التجارب الإنسانية مقصورة على أقاليم البحر الأبيض المتوسط، ولم يكتف المؤرخون بالتاريخ الأوروبي فقط، وحصل المؤرخون الفلاسفة بهذا على عصور سعيدة أخرى وأمم سعيدة أخرى، وأضافوا هكذا إلى محصولهم ما أصابته إنجلترا ومستعمراتها الأمريكية من حظ أوفر من السعادة، كما أضافوا إليه ما كان للشعوب غير المسيحية في الأقطار البعيدة في آسيا، وفي الهند وجزائر الهند الشرقية.
وقد تبين للفلاسفة المؤرخين من روايات رحالة القرن السادس عشر والسابع عشر أن أكثر الشعوب البشرية عاشت مددا عديدة عيشة أهنأ وأليق بالإنسانية من عيشة الشعوب الأوروبية على عهد سلطان الكنيسة، وكانت شرائع تلك الشعوب غير الأوروبية أدنى للحرية وأكثر اتفاقا مع الدين الطبيعي والأخلاق من نظائرها لدى الأوروبيين في العصور الوسطى، هؤلاء الآسيويون نكبوا بفقدان استقلالهم ووقوعهم تحت نير الدول المسيحية، فشقوا وفسدوا، فإذا ما أخرجنا مدة السيادة الأوروبية من حساب السنين كان لنا أن نقول: إن غير الأوروبيين هؤلاء حظوا بالسعادة الجزء الأكبر من مدة التاريخ الإنساني المسجل؛ وهكذا تجمع لدى الفلاسفة المؤرخين بينات تؤيد حجج العقل والحجا وتثبت على العصور المسيحية البطلان والخزي، فها هي ذي العصور السعيدة الأربعة، حظ إنجلترا، حظ «أصدقائنا الأمريكيين الأفاضل»، حظ «الصينيين الحكماء» «والهنود النبلاء»، «والمتوحشين الطيبين».
فمهمة التاريخ الجديد هي أن يؤدي إلى التمييز، الذي عجز العقل المحض عن أدائه، بين ما هو صالح بالطبع، وبين ما هو فاسد بالطبع، بين العادات التي تلائم طبيعة الإنسان وتلك التي لا تلائمها.
51
وكانت مهمته أيضا أن يؤيد ما قضى به العقل، وهو أن الفلسفة المسيحية والخبائث التي دعمتها كانت عدوة لخير الإنسانية، ويبقى علي في ختام هذا الفصل أن أنتقل لشيء من التخصيص فأشير في إيجاز إلى الطرائق التي اتبعها فريق من المؤرخين في «توجيه التاريخ واستغلاله؛ لكي يؤدي المهمة الأساسية التي طلبوها منه.»
ولنبدأ بكتابين لقيا إقبالا كبيرا من الناس: تاريخ فرنسا تأليف مابلي وتاريخ إنجلترا تأليف هيوم، فأما تاريخ فرنسا تأليف مابلي، فأول ما نقول عنه: إنه لم يكن تاريخا لفرنسا، بل «ملاحظات على تاريخ فرنسا»، وكان ما لاحظه هو أن الشعب الفرنسي كان يملك منذ زمن بعيد - منذ أيام شارلمان في الواقع - جميع العناصر التي يتكون منها دستور سياسي ملائم لروح الشعب، ولكن حدث في الأزمنة التالية - في أزمنة الفوضى الإقطاعية وطغيان القسيسين والوزراء - أن طغت على ذلك الدستور أحكام لا تلائم الشعب بالمرة، وقد أخذ مابلي على عاتقه أن يستخرج ذلك الدستور الأصلي مما طغى عليه من عرف وأحكام، ثم بعد أن يستخرجه يدل مواطنيه على أنه قابل للتهذيب والصقل والتطبيق ببذل قليل من العناية، وما هذا بعزيز عليهم بعد أن استناروا، فصاروا يدرون ما يفعلون، وأما كتاب هيوم فلا يحمل في ظاهره ما يحمل كتاب مابلي من معاني الإرشاد والتعليم، بل إن أول أثر تتركه قراءته لأول مرة، أنه رواية للأحداث غير مختلفة ألوانها، حتى إن القارئ ليعجب كيف لقي قبولا من جيل من القراء كان يطلب إلى المؤرخين أن يعنوا بوصف «العرف والعادات»، بدلا من رواية الوقائع، ولكن القارئ إذا ما رجع لقراءة الكتاب فإنه يستطيع أن يتبين أسباب شهرته؛ ذلك أن هيوم توصل بلباقة خفية إلى أن دخل في نسيج الرواية كل ما شاء من استهجان للأشياء التي أنكرها القرن الثامن عشر: الطغيان، الخرافة، التعصب. وإذا كان الكتاب في جملته رواية، فهو رواية جيدة السبك، وهو فوق أي اعتبار آخر، رواية فيلسوف، فيلسوف يروي، لا يقصد إثبات تتالي الوقائع أو تعليلها بشرح أصولها وتوابعها، ولكن ليحكم عليها طبقا للتمييز بين العدل والظلم، وليقيسها بمقاييس الحكم التي اعتد بها عصر العقل، فكانت حاضرة بين يديه، وأن قارئ هيوم يكون حقا رجلا بليد الفهم إذا انتهى من القراءة دون أن يتبين فكرة هيوم ونظراته، وهذه الفكرة أنه لولا طغيان الملوك ورجال الحكم، ولولا دسائس القسيسين وغلبة الدنيا عليهم، ولولا جموح المتعصبين وإسراف عواطفهم، ولولا أوهام السفلة الجاهلة من عامة الشعوب؛ لولا هذه الشرور، وهي كما ترى - لا يمكن أن يخفى أمرها، ولا يمكن أن يستعصي علاجها - لكان تاريخ أي شعب مماثلا لتاريخ إنجلترا، هذه فكرة هيوم، وهي بالضبط ما أراده القرن الثامن عشر من المؤرخين.
ناپیژندل شوی مخ