مدینه فاضله
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
ژانرونه
وإن هذه المآخذ لتوقعنا في حيرة؛ لقد أعلن الفلاسفة مرارا وتكرارا أنهم يطلبون التاريخ ليقيموا الحقوق المناسبة لطبيعة الإنسانية على واقع التجارب الإنسانية، وها هم أولاء حينما أقام منتسكييه الحقوق على الواقع ينكرون عليه هذا! فكيف نعلل التناقض؟ أيرجع إلى أن الفلاسفة كانوا في حقيقة الأمر يبطنون غير ما يظهرون، وأنهم لم يهمهم أن يقيموا الحقوق الملائمة للطبيعة الإنسانية على واقع التجارب الإنسانية؟ أيرجع إلى أنهم على النقيض مما زعموه لم يحيدوا مطلقا عن السنة المنكرة التي اتبعها رجال العصور الوسطى؛ ألا وهي تحريف التاريخ بحيث يتفق واقع التجارب الإنسانية مع تلك الحقائق المفارقة له، والتي كشفت لهم على نحو ما؟ وبعد أيمكن أن يكون هذا صحيحا أو معقولا؟
3
وهذا وا أسفاه، كان الواقع! فإن الفلاسفة كان لديهم ما كان لدى المدرسين في العصور الوسطى، مادة من العلم نالوها عن طريق الكشف، ورفضوا أن يتعلموا من التاريخ إلا ما استطاعوا بحيلة بارعة من احتيال الأحياء على الموتى أن يجعلوه متفقا مع ذلك العلم الذي كشف لهم، وكان وجه تمسكهم بهذا العلم، وجه الإيمان به - وهم في هذا لا يختلفون عن أي جيل من الأجيال - كونه ينبعث من تجاربهم، وكونه يفي بحاجاتهم، ولما كانت تجاربهم وحاجاتهم في حرب حياة أو موت مع النظرية السائدة التقليدية للدولة والكنيسة، وكانت بعد لا تزال محتفظة بقوتها وقع التعارض بين عقيدة الفلاسفة وتلك النظرية في كل حرف منها، وهذه هي أهم مبادئ الإيمان عند الفلاسفة: «أولا» أن الإنسان ليس آثما خسيسا بالفطرة. «ثانيا» أن غاية الحياة هي الحياة نفسها، غايتها الحياة الطيبة في الدنيا لا حياة الغبطة والرضوان بعد الموت. «ثالثا» أن الإنسان قادر بهدى العقل والتجربة وحدهما أن يبلغ بالحياة الطيبة في الدنيا حد الكمال. «رابعا» أن الشرط الأول الضروري للحياة الطيبة في الدنيا إطلاق العقول من أغلال الجهل والخرافة، والأجساد من قهر السلطات الاجتماعية وجورها. ويجب أن تتفق المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية التي أشار هيوم بالتماسها من دراسة التاريخ مع هذه المبادئ الأربعة، ومن أجل إيضاح هذه المبادئ الأربعة يجب أن نعرف «بالإنسان مطلق الإنسان»، وليس هناك ما يدعو لتكلف أي مشقة في سبيل البحث عن «المبادئ الثابتة العامة»، فها هي ذي جلية معروفة، ولا عن «الإنسان مطلق الإنسان»، فها هو ذا موجود فعلا، وقد خلقوه من أنفسهم، فلا حاجة بهم لأن يعرفوه أو يعرفوا به، وهم يعرفون أنه طيب بالفطرة، سهل الاستنارة، ميال لاتباع العقل والإدراك السليم، كريم رءوف سمح، قيادته بالإغراء أسهل من قيادته بالقسر؛ وبالجملة هو مواطن صالح، ورجل فضيلة، فهو يدري تماما أن الحقوق التي يطلبها لنفسه ما هي إلا حقوقه وحقوق غيره من بني الإنسان، وأنها حقوق طبيعية غير قابلة للتقادم، وأن تمتعه بها يقتضي منه أن ينزل طوعا على حكم الحكومة العادلة، فيلزم نفسه بما ترسم من التزامات، ويذعن لما تفرض من حدود من أجل الصالح العام.
فكان المؤرخون الفلاسفة إذن يخدعوننا، وكانوا يفعلون غير ما كانوا يقولون، فها قد عرفنا أن ما زعموه من أنهم رجعوا للتاريخ ليجدوا فيه المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية كان لا أصل له، ولكننا نستطيع أن نغفر لهم خداعهم لنا، إذا ذكرنا أنهم خدعوا أنفسهم أولا، وأنهم نالوا من أنفسهم أكثر مما نالوا منا؛ إذ كانوا في الواقع لا يدرون حقيقة ما يصنعون، كانوا لا يدرون أن الإنسان مطلق الإنسان الذي ابتغوا العثور عليه كان الإنسان كما صوروه وفق ما اشتهوا، وأن المبادئ التي سعوا للكشف عنها هي المبادئ التي بدءوا سعيهم بها، فهم إذن لا يدرون أنهم «يتحايلون» على الماضي وعلى الموتى، وهم قد كشفوا أنفسهم دون أن يقصدوا حين أسرفوا في توكيد ما بين الأخلاق والسياسة من اتحاد، وعند روسو أن من يفصل بينهما يثبت أنه لا يفقه شيئا من السياسة أو من الأخلاق على حد سواء، وعند فونتنيل: «لا فائدة من التاريخ مطلقا إن لم يقرن بالأخلاق، فقد يكون المؤرخ عالما بكل ما عمله بنو الإنسان، ولكنه قد يظل جاهلا بالإنسان.»
47
ويقول منتسكييه في مقدمة كتابه الجليل: إن الحصول على «الوقائع» لم يفده شيئا إلى أن اهتدى إلى المبادئ التي توضحها تلك الوقائع، وقال: «بدأت الكتابة أكثر من مرة، وهممت أكثر من مرة أن أعدل عن تأليف الكتاب، بل إني مرارا ألقيت صحائف كاملة له، فلم أستطع التمييز بين القواعد والاستثناءات، يظهر لي الحق ثم يختفي، ولكن حينما اهتديت إلى المبادئ، انتظم كل شيء، وحصلت على كل ما طلبت.» وعند ديدرو: «يظن البعض أن العلم بالتاريخ يجب أن يسبق العلم بالأخلاق، ولست من هذا الرأي، فإني أرى أن التمييز بين العدل والظلم يجب أن يسبق العلم بمن سنصفهم بالعدل أو بالظلم من الرجال وبأفعال الرجال، وأعتقد أن هذا هو الإجراء العلمي الوحيد المؤدي للغرض.»
48
وهكذا نرى أن ما بين الفلاسفة والتاريخ جلي، هم على بينة من العدل والظلم، وهم على بينة من المبادئ العامة، وهم على بينة من الإنسان مطلق الإنسان، هم على بينة من كل هذا قبل أن يرجعوا للتاريخ لارتياد مجال التجارب الإنسانية.
وخرجوا للارتياد تحت راية نزاهة القصد والأبواق تؤذن باكتمال ما تزودوا به من علم كأنهم على سفر إلى بر مجهول، خرجوا فعلا، ولكنهم لم يجاوزوا القرن الثامن عشر أبدا، ولم يدخلوا أبدا في عصر من عصور الماضي، ولا في بر غير برهم، ومهما كانت رغبتهم في هذا، فإنهم خشوا الابتعاد عن عصرهم وإقليمهم، وكيف يجوز لهم أن يبتعدوا عنه والمعركة بينهم وبين الفلسفة المسيحية، وكل ما يدعمها من ممقوت الخرافة والتعصب والطغيان دائرة الرحى؟
والمعركة معركة حياة أو موت، ولقد سلط الفلاسفة على عدوهم كل ما أوتوه من عقل وحجا، ولكن العدو كان في موقع حصين، فكان لا بد لهم من الاستعانة بأسلحة أخرى تزيد العقل والحجا بأسا على بأس، وهذه قالوا إنهم يلتمسونها في حقائق التاريخ الإنساني، ولكنهم كانوا في حقيقة الأمر يقصدون شيئا آخر، كانوا في الواقع يقومون بحركة التفاف حول عدوهم؛ لكي يوسعوا ميدان المعركة، ولكي يكبسوا عليه من عل، ومعنى هذا كله أنهم عملوا على أن يكسبوا المعركة وضعا آخر، فلا تكون مجرد مماحكة بين قسيسي القرن الثامن عشر وفلاسفته، بل تسمو إلى أن تكون جزءا من حرب شغلت تاريخ العالم، من الصراع المستديم بين الأصلين: الخير والشر، بين دار النور ودار الظلام، أيهما يستأثر بالنفس الإنسانية، لقد أثبت العقل والحجا على الفلسفة المسيحية صبغة الشر التي صبغتها، وعلى التاريخ أن يطلعنا عليها تلافيا لشرها، وأن يفضح أسوأ ما كان من آثارها، وقد اطمأن الفلاسفة المؤرخون كل الاطمئنان إلى أن التاريخ سوف يؤيد العقل والحجا فيما ذهبا إليه، ولكن كان مما لا بد منه أن يعينوا التاريخ على أداء هذا، ومن أجل ذلك غمروا بعض عصوره بالضوء وتركوا البعض في ظلام دامس، وجعلوا للبعض نصيبا من النور، فكان أقل عتمة، كما حكموا بعض عصور التاريخ على البعض الآخر، فحكموا الرشيد منها على الضال، وفرقوا بين عصور طيبة وأخرى خبيثة، ولسنا بحاجة إلى أن ندل على أيها كان الحكم.
ناپیژندل شوی مخ