مدینه فاضله
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
ژانرونه
وجرين وترجو وديدرو وهاردر ومنتسكييه وليبنتز، وأكثر من هذا عثر ديدرو على جميع العناصر التي تكونت منها نظرية داروين في التطور، قلت: «عثر»، وكان التعبير الصحيح أن أقول: إنه «تعثر بها» لا عثر عليها، كما لو كانت عقبات في سبيله لا معابر لغاياته، وفي الواقع كانت هي كذلك بالنسبة له، وقد لاحظ الأستاذ فون
44
أن منتسكييه اعترضت بسط قضاياه صعوبات كان يسهل عليه التغلب عليها، لو أخذ بفكرة «تفتح» النظم تفتحا مطردا، ولا يدري الأستاذ فون لم لم يفعل منتسكييه هذا، فجميع عناصر الفكرة بين يديه، بل هي تحدق إليه من أوراقه، وهذا صحيح، فالفكرة حقيقة في مخطوط كتابه، ولكن الشيء الذي له دلالته هو أنه أغفلها إغفالا يكاد يكون تاما، وأن غيره من الفلاسفة فيما عدا «ليبنتز» لم يستعملها كثيرا، وهكذا كانت الفكرة موجودة في القرن الثامن عشر، ولكن أحدا لم يرحب بها، حامت وحيدة يائسة بائسة حول أطراف الشعور، واقتربت متهيبة من مدخله، ولكنها لم تدخل فيه تماما أبدا.
وأصل هذا كله أن فلاسفة القرن الثامن عشر - على خلاف نظرائهم في القرن التاسع عشر - اهتموا بالتغيير لا بالمحافظة، كانوا رجال «حركة» لا رجال سكون، فلم يهمهم أن يسألوا لم تطور المجتمع إلى ما هو عليه بقدر ما أهمهم أن يبتغوا سبل جعله أفضل مما هو، ولا أجد خيرا لإيضاح اتجاههم الفعلي هذا من الجمل المشهورة التي افتتح بها روسو عقد الاجتماع «يولد الإنسان حرا، ولكنه أينما كان مكبل بالأغلال، كيف حدث هذا؟ لا أدري، كيف نجعل المجتمع نظاما مقبولا؟ أعتقد أنني قادر على أن أجيب عن هذا السؤال»، فلا تسألن إذن الفلاسفة ذلك السؤال الذي أولع به القرن التاسع عشر «كيف تطور المجتمع إلى ما هو عليه؟» فإنك لو فعلت لأجابوك كما أجاب روسو: «إنا لا ندري»، ويقولونها كما لو كانوا على وشك أن يضيفوا إليها: «ولا يهمنا الموضوع في قليل أو كثير» أي انصرف يرحمك الله، وبعد فكأني بهم يقولون، وما جدوى البحث عن كيفية تطور المجتمع؟ ها هو ذا أمام أعيننا، لا يستطيع أحد أن يخطئه أو يراه على غير ما هو: قائم على غير المعقول مرهق ظالم مضاد لطبيعة الإنسان، معوج لا بد من تقويمه وتقويمه سريعا، وكل ما يلزمنا أن نعلمه كيف نقومه، ولا نرجع للماضي إلا لنهتدي بما يعين على العمل، نرجع للماضي لا للعلم بأصول المجتمع بل بمستقبله، ولا يهمنا من الماضي إلا هذا فقط، فلا نريد أن نتصل به، ولا أن ننفصل عنه، وإنما نريد أن نفيد منه نريد أن نستخرج من ذلك الماضي تلك الأفكار، وتلك العادات، وتلك النظم الواسعة الانتشار الثابتة بدلالة التجارب الإنسانية التي يمكن أن نعتبرها متفقة مع المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية، فإذا ما حصلنا على ما التمسناه في التاريخ أعاننا هذا على إنشاء نظام أفضل مما هو قائم.
هذا هو موقف الفلاسفة من التاريخ، وأعتقد أننا لو فهمناه على وجهه لأقبلنا على قراءة مؤلفاتهم التاريخية دون سآمة أو ضجر، فإن مصنفاتهم تخلو من السرد المحض والتحقيق الخالص، والسر في ذلك - كما شرحنا - أن الاهتمام ببيان الاتصال التاريخي وتطور النظم وتفتحها وتفرقها، لم يكن المبدأ الذي بدءوا منه؛ ولذا نجدهم يغفلون رواية الوقائع لذاتها، ولا يشعرون بأن واجب الذمة يقتضي منهم أن يبذلوا في تحقيق التواريخ ما يبذله المحدثون، وأن يشعروا نحوها بما يشعر به بعض رجال التاريخ في زماننا من عناية تدليل وولع، بل كان شغلهم الشاغل أن يعثروا على الإنسان «مطلق الإنسان»، ولا يحق لنا أن ننتظر منهم ألا يلتمسوه إلا في أنجلهايم أو في لستناو أو في اليوم الأول من يوليو سنة 887، إنهم إن التمسوه في أحد المكانين أو في أي مكان آخر، وفي ذلك اليوم من تلك السنة أو في أي يوم آخر ما وجدوه قطعا، فهو - مثل الرجل المثالي للاقتصاديين - لا يوجد إلا في عالم التصورات، وإن شئت أن تعثر عليه، فلا بد لك من أن تبدأ بأن تستخرج من بني الإنسان، أينما كانوا ومتى كانوا الصفات المشتركة بينهم.
ولا شك أنك عندئذ لن تغفل تشارلس السمين، فهو إنسان مثل سقراط، وهو سواء أكان في أنجلهايم أو في لستناو يشارك سقراط في بعض الصفات، والمهم هو تبين تلك الصفات وتسجيلها، وليس المهم أنه شارك فيها غيره من بني الإنسان في أثناء وجوده بأنجلهايم أو بلستناو أو في اليوم الأول من يوليو أو في يوم آخر، فالمكان أو الزمان الذي كان فيه من الأغراض الزمنية، وتستعمل على الأخص على سبيل الإيضاح، وعلى هذا فمنهج الفلاسفة المؤرخين لا يقتضي مراعاة الترتيب الزمني بالمرة، وإن كان منهم من راعاه استسهالا واختيارا، فعل ذلك هيوم وجيبون وفولتير ومابلي، إن تماما أو بعض الشيء، ولكن كان للفيلسوف المؤرخ أن يغفل مراعاته إن شاء، دون أن يعرضه ذلك لأن يفقد لقب المؤرخ، وقد أغفل الترتيب الزمني منتسكييه ورينال، بل إن المنهج الذي اتبعه منتسكييه اعتبر المنهج الخليق بالفيلسوف المؤرخ أو المنهج المثالي لكل فيلسوف مؤرخ، ويتلخص نظريا في ملاحظة جميع ما كان للشعوب في جميع الأزمنة والأمكنة من أفكار وعادات ونظم، ثم المقارنة بينها، ثم حذف ما يبدو منها خاصا بمكان واحد أو بعصر واحد، والحاصل هو المشترك بين بني الإنسان أجمعين، وهذا القدر المشترك هو زبدة التجارب الإنسانية، ونستطيع إن شئنا أن نستخرج منها على حد تعبير هيوم «المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية»، وعلى أساس هذه المبادئ يبنى المجتمع الجديد، فكان المنهج المثالي للفيلسوف المؤرخ إذن منهجا مقارنا، وهو على وجه التدقيق الطريقة الموضوعية الاستقرائية العلمية.
بيد أن هذا المنهج المثالي الذي وصفنا لم يجاوز أن يكون منهجا مثاليا، فلم يتبعه الفلاسفة، بل إن منتسكييه تكلف جهدا ليظهر أنه متبعه، ومما تنبغي الإشارة إليه لعظيم دلالته أن تلك الأقسام من «روح الشرائع» التي وفق فيها منتسكييه أكبر توفيق في استعمال طريقة المقارنة والاستقراء، فجاءت فصولا موضوعية علمية حقا، كانت بالضبط أقل ما في الكتاب إرضاء للفلاسفة، بل إن «روح الشرائع» عموما تركت قراءته في فم الفلاسفة طعما مريرا؛ لأن منتسكييه يؤكد في أكثر من موضع أن المبادئ الثابتة العامة للطبيعة الإنسانية في جوهرها «نسبية»، وبناء على ذلك فما يوافق الطبيعة الإنسانية في بعض الأقاليم لا يوافقها في أقاليم أخرى، ومن هذا وأمثاله أحس الفلاسفة بأن صاحبهم مولع هو أيضا بتحقيق الوقائع لذاتها، وأنه أولع بها إلى حد جعله يتجنب الحكم على بعضها بما تستحق من صرامة، وقد ساءهم منه حقا أنه مس مسا خفيفا أحداثا لم تكن خليقة بأن يحسن بها الظن أو يلتمس لها العذر، ثم يأتي فولتير فيأخذ على منتسكييه الخفة، وفولتير آخر من يجوز لهم أن يأخذوا على الآخرين الخفة، ويأخذ عليه أيضا أنه أكثر ميلا لإثارة الإعجاب في قرائه منه لإفادتهم، وينكر عليه إنكارا شديدا أنه سمى الملوك والأمراء الإقطاعيين «آباءنا» وأما كوندرسيه فكان ما أخذه على منتسكييه أنه عني بتعليل ما هو كائن أكثر مما عني بالبحث عما يجب أن يكون، وكان الأولى به أن يعكس.
45
وروسو نفسه - مع أنه كان أكثر إعجابا بمنتسكييه من أقرانه الفلاسفة - عابه بالإسراف في إقامة الحق على الواقع، وهو عيب وقع فيه جروتيوس من قبل.
46
ناپیژندل شوی مخ