مدینه فاضله
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
ژانرونه
والآن وقد بلغت هذا الموضوع، يخلق بي أن أذكر الكلمة الكثيرة الاستعمال «الحمية»، ما رأي القرن الثامن عشر فيها؟ إني أعلم أن كتاب هذا العصر وبصفة خاصة كتاب صدره، يحرصون عموما على التزام القسط والهدوء، وعلى ألا يشردوا بعيدا عن نداء الإدراك الفطري السليم، وإني أعلم أن مشاهد الحمية تهيجهم وتدفعهم للسخرية، ولكن ألا يدل هذا على أن التزامهم الهدوء، كان شيئا متكلفا من جانبهم؟ فمعنى أن يسخر الإنسان من شيء أنه مهتم بذلك الشيء، وكان إذن نفور الفلاسفة من الحمية أبعد شيء عن عدم الاكتراث، أو أن هذا النفور كان في ذاته الحمية، كان دليلا على عزمهم ألا يسلموا إلا بما هو ظاهر للحواس، وعلى مجاهدتهم الحميدة ليفتحوا للعقل نوافذ تتطهر بها حناياه العفنة الموصدة، وإن جاز لواحد منهم أن يقنع بمشاهدة دنيا بني الإنسان دون أن يشغل قلبه بقليل أو بكثير من أمرهم، كان هيوم الخليق بهذا؛ إذ كان له من أصالة الرأي النصيب الأوفر، كما كان يختال بقدرته على ضبط نفسه وصيانتها من الانفعال كما لو كان زفس بعينه، كان كذلك بطبعه، وكان ينبغي أن يكون كذلك بحكم فلسفته، فإن نظره فيها قاده إلى القول «بأن السبب الأول للأشياء يستوي في اعتباره الخير والشر كما تستوي لديه الحرارة والبرودة.»
13
فقائل بهذا لا يمكن أن يخضع لوهم ما، ومع ذلك فقد رأى هيوم - على الرغم مما اصطنعه من برود الطبع - أن رأيا كهذا لا يدع مجالا لاهتمامه بشيء ما قد جاوز في الإسراف حدا بعيدا، فأدرك وجوب تلطيفه نوعا ما، فكتب في سنة 1737:
أعمل الآن في تهذيب مؤلفي، أو بعبارة أخرى، أحاول أن أقلل ما استطعت من إغضابه للناس، وهذا جبن، ولكني لا أستطيع أن أغلب الحمية على نفسي في كتبي الفلسفية، بينما آخذ على الغير خضوعه لأنواع أخرى منها.
14
وأظن أن اعتذار هيوم عن عدم السير بحجته المتشائمة حتى نهايتها المنطقية بسبب رغبته في تجنب الظهور بمظهر الحمية ينطوي على شيء من الدهاء المكشوف، وأعتقد أن السبب الحقيقي الذي جعله يخفف من شكه هو شعوره بأن النتائج السالبة لا تنفع، يؤيد هذا قوله: «من سوء الخلق أن ينشر الإنسان رأيا يفضي بالناس إلى ارتكاب ما هو خطر أو ضار، ولم التنقيب في خفايا الطبيعة التي لا ينبعث منها إلا ما يشيع في الناس القلق، ولا ريب أن الحقائق التي تؤدي إلى إيقاع الضرر بالمجتمع - إن صح أن هناك حقائق من هذا النوع - سوف تتراجع أمام الأباطيل إن كانت طيبة نافعة.»
15
ومهما يكن فقد ترك هيوم عند منتصف عمره المباحث الفلسفية لغيره، واشتغل بعلوم أخرى كالتاريخ، والأخلاق؛ أي بعلوم يمكن العمل فيها بلا مواربة دون أن يغضب أحدا، فضلا عما فيها من عبر وعظات، وهكذا انحرف أمير المتشككين المبغض للحمية بغضا حادا خالصا عن جادته، ليتخذ سبيلا آخر في صحبة أولئك الذين نفعوا الإنسانية، فاستحقوا عنها خير الجزاء.
وما كان هيوم في هذا إلا ممثلا لعصره، يمثله في أن خاصية العصر لم تكن عدم الاكتراث الناشئ من معرفة الدنيا على حقيقتها، بل كانت السعي المتلهف لوضع أمورها في نصابها، وهاكم كلمتين قيل إنهما من اصطلاح القرن الثامن عشر: «فعل الخير والإنسانية»، صاغهما فلاسفته للتعبير عن مثل أعلى مسيحي قديم هو السعي في مصالح الخلق، وفي هذا السياق نتذكر على وجه الخصوص الأب دي سان بيير، كان رجل جد ووداعة، جم النشاط على غير كبير طائل، «يضحكون منه، ولكنه لا يرى في جده ما يستوجب الضحك.»
16
ناپیژندل شوی مخ