وحين افتتح فيثاغورس مدرسته، اجتذبت عددا كبيرا من الأتباع، قيل إن عددهم بلغ ما يقرب من عشرة آلاف، وهو عدد ليس ثمرة الإحصاء، ولكنه ظن وتخمين؛ لأن العدد المثالي للمدينة الإغريقية كان ذلك العدد. ومع ذلك فليس من المستغرب أن تبلغ المدرسة هذا العدد؛ لأنها كانت تشمل الرجال والنساء على السواء. نقول مدرسة تجوزا؛ لأنها كانت أشبه بفرقة دينية، ونظام من الإخوة، قريب من الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام.
والمدرسة إلى ذلك كانت ذات وجهين؛ أحدهما رياضي، والآخر أخلاقي وديني. أما الجانب الرياضي، فلم يكن يصلح لهذا العدد الكبير من الطلبة بطبيعة الحال، بل كان مقصورا على قلة قليلة من الخاصة. ومعنى ذلك أن المدرسة - ولو أنها كانت كلها سرية - إلا أنها كانت تقدم دروسا للخاصة في العلوم الرياضية، وأخرى للجمهور في الدين والأخلاق. وقد بقي هذا التقليد سائدا في كثير من المدارس الفلسفية، وسنجده عند أرسطو الذي كان يلقي دروسا للخاصة في الصباح، وأخرى للجمهور في المساء. وهذه التعاليم الخاصة هي التي كانت تحجب عن الجمهور، وتسمى بالتعاليم المستورة، ويسميها الغزالي: المضنون به على غير أهله.
ومن الطبيعي أن تكون الرياضيات التي علمتها الفيثاغورية في القرن السادس قبل الميلاد ساذجة بدائية، تمثل أول درجة من درجات هذا «العلم». نقول «العلم» ونعني بذلك الفرق بينه وبين المعرفة العملية التجريبية؛ لأن الإنسانية لم تبلغ المرحلة العلمية بمعنى الكلمة إلا بعد أن مرت مئات - بل آلاف - من السنين، تقتصر على المعرفة التجريبية القائمة على الحس. والرياضة من حساب وهندسة كانت أول العلوم التي اهتدى الإنسان إليها، وذلك على يد فيثاغورس وشيعته. ولم يكن الحساب قد انفصل عن الهندسة؛ لأن الحساب - وهو علم العدد - كان يصور على هيئة أشكال هندسية. فقد كان علماء ذلك الزمان يستخدمون «لوح المعداد»، وهو لوح يملأ بالرمل ويخط عليه الأشكال المطلوبة. وبالنسبة للحساب يستخدم الحصى أو البلي، ويوضع وضعا هندسيا، أي أن حصاة واحدة تدل على نقطة، واثنتان موضوعتان جنبا إلى جنب هما الخط، وثلاث حصوات مثلث، وأربع مربع، وهكذا؛ ومن هنا قالوا بالأعداد المثلثة والأعداد المربعة.
وقد وجدوا في الأعداد خصائص عجيبة عند جمعها وطرحها وضربها، وغير ذلك من العمليات. مثال ذلك أن مجموع مربعي العددين المتواليين 3، 4 يساوي مربع العدد التالي لهما وهو 5؛ أي 9 + 16 = 25، وهذه الخاصية العددية هي التي طبقت في الهندسة في نظرية فيثاغورس المشهورة، القائلة بأن مجموع مربعي ضلعي المثلث قائم الزاوية يساوي مربع الوتر، فإذا فرضنا أن طول أحد الضلعين ثلاثة والآخر أربعة، كان طول الوتر خمسة. وليس المهم الكشف عن صحة هذه النظرية، أو المسألة الهندسية بطريقة عملية، وإنما المهم «إثبات» صحتها ب «البرهان» الرياضي، أي نظريا لا عمليا. وكان فيثاغورس يعلي من شأن «النظر» على العمل، وهو صاحب قسمة الناس هذه القسمة المشهورة إلى نظار وجمهور، فالجمهور هم جملة الناس وجمهرتهم المشتغلون بأمور الدنيا والمعاش، من زراعة وتجارة ومهن أخرى، يزاولونها بأيديهم، أما «النظار» فإنهم لا يشاركون في هذه الأعمال، ولكن «ينظرون»؛ أي يتفرجون من بعيد على الذين يعملون. وقد استمر هذا التقليد الذي يفصل بين النظر والعمل من جهة، ويعلي من شأن النظر على العمل من جهة أخرى، في الفلسفة اليونانية كلها؛ أخذ به أفلاطون ثم أرسطو، وانتقل هذا التراث إلى العرب عند نقل الفلسفة اليونانية، وأخذت به أوروبا بعد عصر النهضة والعصر الحديث، ولم يبدأ يتغير هذا المبدأ الفيثاغوري إلا في هذا القرن العشرين.
ويرجع بنا الحديث إلى الرياضيات فنقول: إن ما يخيل إلينا اليوم من مسائل حسابية وهندسية في غاية البساطة، ومما يدرسه الصبيان في سن متقدمة بالمدارس، كان في ذلك العهد في غاية الصعوبة، ولا يقوى على فهمه وإدراكه إلا قلة قليلة جدا هم الفلاسفة. ونحن لا نعرف كم كان عدد هذه الحلقة من الخاصة الملتفين بفيثاغورس؛ لطبيعة السرية التي ضربت حول التعاليم الرياضية، إلى درجة أن أي واحد يفشي هذه التعاليم كان يعاقب بالطرد.
واختلفت الآراء في أمر ذلك الذي أفشى هذه التعاليم الرياضية، فقيل إنه «فيلولاوس» وكان فيثاغوريا، كتب كتابا من ثلاثة أجزاء اشتراه ديون حاكم سراقوسة بصقلية حسب طلب أفلاطون؛ فتيسر بذلك أن يطلع أفلاطون على آراء فيثاغورس الرياضية. ولكن هذه الرواية ينقضها ما كان يعرفه سقراط من أتباع الفيثاغوريين، وبخاصة أن أفلاطون نفسه كان يعرف صلة سقراط بهؤلاء الأتباع، مما نجده مدونا في أول محاورة «فيدون». والأرجح أن الذي أفشى تعاليمهم هو «هيباسوس» الذي دون هذه التعاليم في كتاب ، وكان ذلك في حياة فيثاغورس نفسه، وعوقب لهذا السبب بالطرد من الفرقة الفيثاغورية.
ولم تكن الفيثاغورية مدرسة بمقدار ما كانت فرقة تقوم على نظام من الأخوة، وكأنها دير أو معبد. وكان جميع أفرادها يعيشون معيشة زهد وبساطة، ويلبسون زيا موحدا وهو البياض، ولا ينتعلون، بل يمشون حفاة الأقدام. وقد سبقت الإشارة إلى أن سقراط كان من جملة أتباعهم، فلا غرابة أن يسلك مسلكهم، فكان يمشي حافي القدمين.
والفيثاغورية أول مدرسة فتحت أبوابها لتعليم المرأة، وبذلك قررت الفيثاغورية مبدأ مساواة المرأة بالرجل، قبل أن يقرره أفلاطون في جمهوريته بقرنين من الزمان. ومن الغريب أن أفلاطون، على الرغم من المناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة، لم يؤثر عنه أنه فتح أبواب الأكاديمية لأي امرأة. وعلى العكس كانت هناك مدارس فلسفية في اليونان ضمت نساء إلى جانب الرجال، مثل مدرسة إبيقور.
إن تحرير المرأة مرتبط ارتباطا وثيقا بتعليمها، ولم تستطع المرأة أن تظفر بالتعليم العالي إلا منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن فقط. أما قديما، فلم تظهر إلا محاولات كانت أشبه بومضات لا تكاد تبرق حتى تختفي، ولم يقدر لها الاستمرار؛ ولهذا لم يذكر التاريخ امرأة كانت صاحبة مذهب فلسفي، أو عالمة بالرياضيات أو الطبيعيات، ويبدو أن رأي سقراط في المرأة من جهة تعلمها الفلسفة كان سيئا؛ فقد ذهبت زوجته بصحبة أبنائهما إلى السجن تزوره قبل إعدامه، ولم تكد تراه حتى أخذت تولول وتصيح، فقال لرفقائه: أخرجوا هذه المرأة. ونحن نجد هذا الحديث مسجلا في أول محاورة «فيدون».
وقد اشتهرت المرأة الفيثاغورية بالعفة والفضيلة، وأنها أفضل نساء الإغريق؛ والعلة في ذلك أنها تعلم الأدب وبعض مبادئ الفلسفة، كما كانت تعلم تدبير المنزل والأمومة. إن اشتراك المرأة مع الرجل على هذا النطاق الواسع جعل المدرسة الفيثاغورية شيئا أشبه بمجتمع مثالي أو مدينة فاضلة. وكانت المدن الفاضلة الشغل الشاغل لفلاسفة اليونان، حتى ليمكن القول إن هدف الفلسفة صياغة المجتمعات المثالية أو المدن الفاضلة، كما هي الحال في جمهورية أفلاطون. ولكن معظم المدن الفاضلة كانت من قبيل «الطوبيات» تصورها أصحابها في الخيال، ولم تطبق عمليا بالفعل، فيما عدا بعض المدن الفاضلة القليلة، ومنها مدرسة فيثاغورس.
ناپیژندل شوی مخ