ونود أن نقف بعض الشيء عند اثنين؛ كاليماخوس وأراتستينس؛ لأن الحديث عنهما يعرج بنا على مدرسة فلسفية هي المدرسة القورينائية. سميت كذلك نسبة إلى «قورينا» في ليبيا، ومكانها الآن مدينة شحات. أنشأ المدينة مهاجرون من جزيرة كريت في القرن السابع في الجبل، وعلى مقربة من البحر، وجعلوها بما شيدوه من معبد وملعب (جمنزيزم) ومحكمة، وغير ذلك مدينة يونانية تماما. وقامت بها مدرسة فلسفية أسسها أرستبوس صاحب المذهب الأخلاقي الذي اشتهر بالإقبال على اللذة، وحقيقة المذهب أنه يهدي المرء إلى «فن الحياة». وفي «قورينا» عمل ثيودورس الرياضي الذي تعلم في أثينا، وعاد إلى موطنه، وزاره أفلاطون في شبابه وعاش معه زمنا. ويبدو أن المدرسة جمعت بين الدراسات الأدبية والفلسفية والرياضية، فكان أراتستينس من أشهر الرياضيين.
ولد كاليماخوس ب «قورينا» حول سنة 300 وبها درس، ثم أكمل تعليمه في أثينا، وعين رئيسا لمكتبة الإسكندرية سنة 260، وتوفي 240. وهو الذي صنف كتب المكتبة، وعمل كتالوجا قسمه ثمانية أقسام بحسب المؤلفين؛ (1) شعراء الدراما. (2) شعراء الحماسة والغناء. (3) المشرعون. (4) الفلاسفة. (5) المؤرخون. (6) الخطباء. (7) البلغاء. (8) منوعات. وأكبر الظن أن الرياضيين والأطباء والعلماء كانوا تحت القسم الخاص بالفلاسفة.
عاش أراتستينس (276-194) في القرن الثالث، تعلم ب «قورينا» ثم درس في أثينا، واختص بالرياضيات والفلك والجغرافيا. دعاه بطليموس الثالث وعينه عضوا بالمتحف، ثم رئيس المكتبة سنة 235، واستمر بها إلى أن توفي، أي زهاء أربعين عاما. وقد اشتهر أراتستينس بأن قياسه لمحيط الأرض كان أقرب قياس إلى الصواب؛ وذلك على أساس قياس المسافة بين الإسكندرية وأسوان، وهي مسافة معروفة، واعتباره أن أسوان تقع على مدار السرطان؛ أي خط عرض 23 تقريبا. وهنا يحق لنا التساؤل عن الصلة بين المتحف والمكتبة؛ فقد رأينا علماء شغلوا منصب الرئاسة بالمكتبة، ولعلهم مارسوا نشاطهم العلمي بها. وأكبر الظن أن المكتبة، ولو أنها كانت مستقلة، إلا أنها كانت تخدم المتحف الذي يستعين علماؤه بما فيها من مؤلفات. مهما يكن من شيء، ليس بين أيدينا ما يلقي ضوءا على هذه الصلة.
مرت بالمكتبة محن كثيرة انتهت إلى زوالها، وأول محنة أصابتها عند حصار يوليوس قيصر للإسكندرية، وكانت المكتبة عامرة مزدهرة، فلما أحرق قيصر الميناء، امتدت ألسنة النيران إلى المكتبة. ويقال إن أنطونيو وهب كليوباترا 200000 كتاب من برجام سنة 41ق.م، تعويضا لما فقد منها.
ولما بدأ ساعد المسيحية يشتد شيئا فشيئا منذ القرن الثاني، كان المسيحيون يعتقدون أن المكتبة والمتحف جناحان لقلعة الكفر والإلحاد. ونحن نعلم أن المسيحية لقيت عناء شديدا في مكافحة الوثنية القائمة على الفلسفة اليونانية، وكان الصراع بين المسيحية دينا، والوثنية ثقافة وأدبا وفلسفة صراعا مرا لم تستطع المسيحية أن تتغلب عليها إلا في القرن الرابع. وحين تنصر الأباطرة أنفسهم فأيدوا الدين بسلطان الدولة. وقد دمرت المكتبة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس، وذلك بأمر البطريق ثيوفيل بطريق الإسكندرية (385-412) الذي كان معاديا للوثنية. وقد شاع أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر عامله عمرو بن العاص بحرق المكتبة، وهي قصة العرب منها براء؛ لأن المكتبة كما رأينا لم يكن لها وجود عند الفتح العربي.
ومن المعروف تاريخيا أن ثمة مدارس فلسفية مسيحية نشأت في الإسكندرية، واستطاعت هذه التعاليم المنظمة أن تكافح وثنية اليونان. وأقدم هذه المدارس تلك التي أنشأها بنتينس
الذي رأس المدرسة الرواقية في الإسكندرية، وكان قد تحول إلى المسيحية. ثم تولى رئاسة هذه المدرسة كليمنت الإسكندري. ولد بالإسكندرية 150ق.م، وتحول إلى المسيحية بعد أن درس في عدة مدن، وأعجبه تعليم بنتينس فتبعه، ورأس المدرسة سنة 200ق.م، ومن هذه المدرسة ظهر أوريجين الذي أخذ من كليمنت من جهة، ومن أمونيوس سكاس من جهة أخرى. ويعد أوريجين مؤسس الأفلاطونية المحدثة في رواية، كما يعد أمونيوس سكاس (175-250) هو المؤسس في رواية أخرى. ولد أمونيوس من أبوين مسيحيين، ولكنه ارتد عن المسيحية إلى الفلسفة اليونانية وديانتها. وكانت تعاليمه شفوية سماعية، ويقال إنه وفق بين تعاليم أفلاطون وأرسطو.
مدرسة أفلوطين
إذا كانت بوادر الأفلاطونية المحدثة بدأت من أوريجين، فإن حامل لوائها بمعنى الكلمة هو أفلوطين. وعلى الرغم من أن مدرسته كانت في روما، إلا أنه يعد من مدرسة الإسكندرية؛ فهو فيلسوف إسكندراني، وأكثر من هذا فهو مصري.
ولد في ليقوبوليس - وهي أسيوط حاليا - بمصر الوسطى سنة 205، وتوفي 270 بعد الميلاد. ولا ندري شيئا عن نشأته الأولى وأسرته؛ لأنه كما يقول تلميذه فرفريوس الصوري، كان يأبى أن يتحدث عن آبائه وأقربائه وموطنه. وفرفريوس هو الوحيد الذي كتب سيرة أفلوطين، وهو الذي نشر تاسوعاته، وسنتكلم عنه بعد حديثنا عن أفلوطين، وما نعرضه الآن عن أفلوطين مستمد مما دونه فرفريوس، فلا حاجة للإشارة إلى الموضع الذي أخذنا عنه. قال فرفريوس:
ناپیژندل شوی مخ