إن كل المدنيات التي سمعنا بها فرضتها إما إرادة حاكم مستبد أو سندتها أوليجاركية حاكمة، وما نطلق عليه خطأ اسم «الديمقراطية الأثينية» كان أوليجاركية تعتمد على الرقيق في وسائلها للمدنية. ففي إتكا - ويبلغ سكانها زهاء نصف مليون - يقدر العلماء أن من كان له حق التصويت أو ممارسة السلطان على أي لون من الألوان لم يزيدوا عن اثنين وعشرين ألفا، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المواليد الأحرار من النساء والأطفال، كان عدد الأثينيين الأحرار زهاء مائة وخمسين ألفا. ومن بين الرقيق الذين كانوا هناك أقل شقاء منهم في أي مكان آخر عدد كبير من الصناع المهرة يؤجرهم أصحابهم، وكثيرون آخرون كانوا يخدمون في البيوت، ويبدو أن هؤلاء كان يحسن استخدامهم ويستمتعون ببعض فوائد الثقافة الأثينية كانوا يرودون المسارح، وإذا كانوا يقدرون هذه المزية فلا بد أنهم كانوا يفوقون أبناء العامة في مدارسنا الإلزامية ذوقا وذكاء وتربية. ولو لم تنشب حرب بلبونيز، بل لو أنها انتهت عند صلح نكياس، لكان من المحتمل أن يكتسب هؤلاء العبيد المتفوقون تدريجا حقوق المواطنين، ولكنا نستطيع أن نؤكد أنهم كانوا يبقون عبيدا، إذا قصدنا بالعبد ذلك الرجل الذي يحرم النفوذ السياسي ويرغم على العمل للآخرين، ودون هؤلاء الخدم المهرة المتعلمون نجد قطيعا من الحيوانات البشرية التي تحمل الأثقال، ويمكننا بالتأكيد أن نستبدل الآلات بهؤلاء في هذا القرن العشرين.
ومن ثم ترون الجهل الذي يطبق على أولئك الذين يزعمون أنهم سياسيون مثقفون، الذين يوردون أثينا مثالا للمدنية التي تقوم على الحرية والعدالة والديمقراطية. إن ما يستطيعون الإصرار عليه بصورة مجدية هو وجود المساواة الاجتماعية والسياسية التامة، والمساواة المالية التي تكاد أن تكون تامة، بين أفراد الطبقة المالكة المتمدنة - أو في الواقع بين المواطنين - ويخيل إلى الناظر لأول وهلة أن طبقة المواطنين هذه تشبه في الكثير تلك الديمقراطية الاجتماعية المتمدنة التي داعبت طويلا أحلام كثير من أفذاذ الرجال، في ظل هذا النظام تجد طبقة تعيش إلى حد كبير على كسب غيرهم، ويعيش جانب كبير منها أساسا - لا كلية - من أجل الأمور العقلية والملذات الدقيقة الرائعة. من بين هؤلاء يتيسر لنا أن نجد نواة ناشري المدنية، كهان وكاهنات الثقافة الكبار، تليهم مباشرة كتلة المواطنين المشربين تماما بروحهم إلى درجة لا تبعدهم كثيرا عنهم، وبقي أن توحد الثقافة بين الطبقة العليا من العبيد، وهذه الطبقة الدنيا من المواطنين.
وبالنسبة إلينا - نحن أبناء القرن العشرين، المحصنين بالمكتشفات العلمية والمخترعات التي تمت خلال القرنين السابقين - لا يحتاج الوصل بين هاتين الطبقتين إلى وثبة بعيدة الاحتمال؛ فما الذي يمنع إذن مجتمعا حديثا من التمدن؟ والجواب على ذلك لا يحتاج إلى تفكير. كانت أثينا ممكنة لأن الأثينيين كانوا يحبون أن يتمدنوا، ولم تشته «الحياة الطيبة» الطبقة المتفرغة فحسب، بل كان كذلك يشتهيها الصناع والعاملون. أما في إنجلترا فلا يزال لدينا الدخل غير المكتسب الذي يعول طبقة ضخمة من المتفرغين، وقد حقق المنتجون لأنفسهم - بتوجيه من المفكرين المتمدنين - قسطا كبيرا من الأمن والطمأنينة، ولكن الأكثرية من الطبقة التي كان ينبغي أن تكون النواة الصغيرة التي تنشر المدنية، هذه الأكثرية تؤثر أن تتبربر بالعمل المكسب الذي يهدم الروح وبالملذات التي تتصف بالخشونة، في حين أن الصناع والعمال يكرسون مالهم الذي اكتسبوه حديثا للإنفاق في سبيل محاكاة هؤلاء.
إن خير العقول تتجه نحو أثينا دائما تلتمس عندها قبسا من الأمل، ومن ثم يجدر بنا أن نذكر أن أثينا كانت أوليجاركية كبرى، وأن جميع المواطنين من الذكور البالغين كانوا متساوين سياسيا واجتماعيا، وأنه لم يكن بين المواطنين فقير مدقع، وقل من كان ثريا، وأن النساء لم يكن جميعا من الرقيق، وإن لم يكن لهن حق التصويت. إن مركز المرأة - في أثينا خاصة - وفي المدنية عامة لا يمكن إغفاله ونحن بصدد البحث في وسائل المدنية؛ لأن النساء - بطرق واضحة وأخرى خفية - من وسائل المدنية. حقا لقد كانت الزوجة الأثينية العادية تعامل إلى حد كبير كأنها رقيق له احترام كبير، وكان ذلك طبيعيا؛ لأن الزوجية رق، وفي هذا - كما في غيره من كثير من الأمور - كان الأثينيون يحاولون أن يروا الأشياء كما هي؛ كانوا يواجهون الحقائق ويشحذون الذهن لمعالجتها، فشيدوا بذلك مدنية تتقدم على كل ما سبقها وما لحقها. إننا نعترف عادة أن المرأة في الحياة المعاصرة في مركز لا يرضى. لقد ظفرن بحق التصويت، وبدأن يكتشفن قيمة هذه المنحة التي اكتسبنها بشق الأنفس؛ إلا أنهن ما زلن في موقف لا يحسدن عليه، وسوف يلزمنه حتى يتساوى عمل الأم والزوجة تماما مع عمل الميكانيكي والمحامي؛ لأن الزوجة عاملة، وكان يعترف للزوجة الأثينية بهذا الوضع. وكانت تعامل بالاحترام الذي يستحقه كل عامل مخلص كفء، ولكنها لم تنتم إلى الطبقة الممتازة المتمدنة التي تنشر المدنية؛ لأنها لم تستطع ذلك بطبيعة مصالحها وأعمالها، وكان الأثينيون يقررون لها أهميتها، ولكنهم كانوا كذلك يقدرون أهمية المرأة المتقدمة في المدنية - كانوا يقررون أهميتها كوسيلة من وسائل المدنية. كانوا يدركون أن المدنية إذا خلت من وجهة النظر النسوية ومن الاستجابة النسائية، وإذا خلت من الذوق النسوي، وبصر المرأة، وإلهامها، وفطنتها، ودقتها، وإخلاصها، وعنادها، وريبتها، إذا خلت من ذلك كانت مدنية ناقصة عرجاء، ولوجود هذا العنصر النسوي اعتمد الأثينيون على نظام الهتيرا (المحظيات). أو هكذا على الأقل أدرك الموضوع. هناك خرافة سائدة نشرها فيما أظن بعض أساتذة الجامعات أن الحياة في أثينا كانت تشبه الحياة في كلية أو في دير، لا تلعب فيها المرأة دورا، أو تلعب دورا تافها، وكل ما أستطيع أن أقوله لهؤلاء الأساتذة المسنين أنهم قرءوا الآداب القديمة قراءة جزئية، وأحب أن أوجه أنظارهم أولا إلى كتب «بكر» التي بدأت تختفي، ثم إلى الثقاة الذين ورد ذكرهم في هذه الكتب، ويقيني أن أكثر من كتب من المحدثين عن المجتمع القديم يظهر أنهم رجعوا إلى «بكر» واطلعوا فيه على قائمة بأسماء الثقاة، ولم يفعلوا أكثر من ذلك، وأرجو أن يتابعوا بحوثهم؛ لأن هؤلاء الثقاة سوف يدلونهم على الأقل على الدور العظيم الذي لعبته طبقة خاصة من السيدات العصريات. •••
لو كنت حاكما مستبدا لتنازلت عن حكمي فورا، ولكني لو ورثت مع السلطان تذوفا لفعل الخير، لوجهت أطماعي نحو نشر المدنية، وكخطوة أولى في هذا السبيل أقيم طبقة متفرغة وأمنحها المزايا، على ألا يتناول أي عضو من أعضائها أكثر مما يكفيه، كما أني أجعل من المستحيل على كل فرد من أفراد هذه الطبقة - رجلا كان أو امرأة - أن يضاعف دخله بأية وسيلة من الوسائل، ويهمني بعد ذلك أن أنظم المجتمع بحيث يتوفر للطبقة الدنيا، طبقة العمال، قدر كاف من الفراغ وراحة العيش يمكنهم من الإفادة من وجود طبقة المتفرغين، ولا بد أن أوفر للطبقة الممتازة تربية كاملة وكل وسائل الثقافة المعروفة، وأن أوفر لبقية أفراد المجتمع من التعليم ومن فرص الاستمتاع بما يهيئه التعليم بقدر ما تسمح به خزانتي.
ولكي أهيئ الوسائل لفراغ مجموع الشعب وراحته أتطلع مستبشرا في اتجاهين: أتطلع إلى المخترعات، التي تمكن رجلا واحدا يشرف على آلة من الآلات من أن يؤدي ما يقوم به مائة من الرجال من خدمات، وأتطلع كذلك إلى الإقلال من السكان، وقد تقدمنا كثيرا في ناحية توفير العمل؛ إلا أن الثروة التي نجمت عن ذلك لم تخصص في أكثر الأحيان لتزجية الفراغ، وإنما خصصت - إلى حد كبير - لمضاعفة الثراء، ولإشعال الحرب، وصنع السلاح، وللمتع الدنيا (مثل دور الصور المتحركة، والجولف، والسيارات، وسباق الكلاب، وكرة القدم) وتربية الأطفال، وسوف يزداد عدد السكان؛ إذ إن العلم عندنا يعطيهم آلة يستطيع المرء أن يؤدي بها عمل مائة رجل، فإن المائة بأسرها، تستطيع - دون أن تهوي في مستوى العيش - أن توفر لنفسها وقتا أوسع. بيد أنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك تراهم ينجبون تسعة وتسعين طفلا يستهلكون الفائض، ويبقون هم في مكانهم لا يتزحزحون، أي في حالة من الهمجية الشاقة. وقد سمعت بعض الخبراء يقول: إن ثروة العالم حتى في الوقت الحاضر يمكن - لو نظم الإنتاج تنظيما يقوم على العقل - أن ينتجها نصف السكان، ومعنى ذلك أننا لو نصفنا عدد السكان استطاع كل امرئ أن يضاعف أجره أو دخله مرتين - ولكن الخبراء يؤكدون كل افتراض، وفي دولتي ينفق نصف فائض الثروة الممكنة عن الحاجات المعقولة في الرفاهية المادية - اللهو والسلع - وينفق النصف الآخر في الفراغ، وعندما يقل عدد السكان إلى الحد الذي يوفق توفيقا طيبا بين الإنتاج والفراغ، يثبت عدد السكان على ما وصل إليه. أما الأمر كما هو الآن فمؤداه أن كل اختراع جديد يعني مجرد زيادة الإنتاج لكي يكفي زيادة السكان مع إضافة وسائل قليلة للراحة، وما دام ازدياد السكان يلاحق المخترعات الجديدة فلن يفيد منها أحد شيئا، وتبقى المدنية - على الأقل - كما كانت دائما بعيدة المنال.
5
وإني لأعطي لرعيتي حرية كاملة في التفكير والتعبير، كما أعطيهم حق إجراء ما يرون من تجارب في حياتهم الخاصة، ولكني لن أعطيهم حرية كاملة في العمل؛ لأن العمل لا علاقة له بالمدنية، فهي تتعلق بالحالات العقلية، وسيقع ذلك موقعا شديدا على أولئك البرابرة المنكودين الذين لا يستطيعون أن يعبروا عن أنفسهم إلا بالعمل على هؤلاء أن يقنعوا بإلقاء الخطب، والاشتراك في اللجان، ومحاولة إقناعنا - لا إرغامنا - بأداء ما يرغبون، وأستطيع أن أتخذ منهم رجال الشرطة، وفي دولتي أحبس اللصوص المطبوعين والسفاكين والفضوليين وأصحاب النزعة النابليونية والمتحمسين لتفسير القانون غير المكتوب. إن حرية العمل بغير قيد لا تتفق والمدنية؛ ففي العالم أناس يتدخلون في شئون غيرهم، متعصبين، شرهين، مستهترين، في قلوبهم قسوة الحيوان، لو أتيحت لهم الفرصة سلكوا مسلكا يجعل الحياة غير محتملة والمدنية مستحيلة، وفي دولتي لن تتاح الفرصة لهؤلاء، وربما تصور تولستوي عالما كل سكانه طيبون، فهو لا يحب أن يتدخل في شأن أي فرد سواه، عالم متطهر من الشراهة والبغضاء والحقد والأطماع، عالم لو وجد فيه من يتصف بهذه الصفات فلن يعمل قط بدافع من ميوله الشريرة. والأرجح أن تولستوي كان يعتقد أن العالم لا يخلو قط من المتوحشين الذين يتصفون بالعنف والفضول والشراهة والحقد، الذين يتبعون غرائزهم مهما بلغت سفالتها، ولكنه لم يحسب لوجودهم حسابا ما دام الآخرون يحتفظون بطهارتهم ناصعة من غير سوء. يزعم تولستوي أن طهارة النفس يمكن الاحتفاظ بها إذا استسلم المرء استسلاما سلبيا وعن طيب خاطر وبقاء طهارة النفس ممكن، بل ممكن أيضا أن تزيد أضعافا مضاعفة، ولكن المدنية لا بد أن تهلك، إن عبد الهمجي الذي يعذب ويساق سوق الأغنام يمكن أن يكون قديسا أو رواقيا، ولكنه لن يكون إنسانا متمدنا. إذ ينقصه الفراغ الذي لا بد منه ، والأمن، وفرص الحياة، ومن ثم كانت السيطرة على العمل، التي تعني قوة بوليسية قادرة - فيما يبدو لي - ضرورة في كل مكان إلا في مجتمع من الملائكة أو الحيوان - الحيوان الذي يهبط إلى درك لا أمل البتة في انتشاله منه، ولا يهمنا قط لذلك أن يسيء أحدهم إلى الآخر أو يتسلط عليه. •••
ولا مناص للمتقدمين في المدنية من أن يعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم، ومهما يكن إملاء العقل، فإن حساسيتهم تجعل من المستحيل عليهم أن يكيلوا الضربات قاصدين أو أن يوقعوا العقوبات عامدين. إنهم لا يستطيعون البقاء ما لم يعتقد زملاؤهم المواطنون أو السلطة الحاكمة - أيا كانت - في ضرورة عونهم والدفاع عنهم. إذ إنه في اللحظة التي يشرعون فيها في الدفاع عن أنفسهم يفقدون كمالهم، ولم أنس أن كل أثيني كان عرضة لاستدعائه للخدمة العسكرية، وكان ذلك السبب الأول في عدم استقرار الثقافة الأثينية التي تدهورت تدريجا خلال الحرب، وربما هبطت في نهاية الأمر إلى المستوى الإسبرطي لولا أن موقعة إيجوسبو تامي كانت نعمة عظيمة، وإذا كان التنظيم من أجل الدفاع يعبث بمدنية الدولة فكيف يكون أثره الهدام على إنسان حساس كالفرد المتقدم في مدنيته. كان سقراط جنديا حسنا، بيد أن سقراط كان فيلسوفا إلى جانب أنه سقراط وحسب، وقد رمى هوارس درعه في قلبي. •••
أريد في دولتي قوة بوليسية لحماية المدنية لا لكي تفرضها فرضا على الناس؛ فالمدنية لا يمكن أن تفرض بالقوة، ولو كانت تنحصر في الإيمان ببعض الأفكار لاقتضى الأمر حشرها حشرا في حلوق العازفين عنها. أما وهي تنحصر في موقف معين من الحياة، وفي طرق التفكير والشعور، فيجب نشرها. إن من يريد أن ينشر المدنية بين زملائه يجب أن يسمح لهم بأن يكتشفوا بأنفسهم أن للحياة أسلوبا أفضل من أساليبهم: وهكذا كانت المدنيات العليا تنتشر دائما، وكثيرا ما حدث في التاريخ أن أمما همجية عرفت بالسلب والنهب بدأت زحفها وهي تؤمن بتفوقها من جميع الوجوه على الشعب المسالم الذي توشك أن تخضعه وتتمثله. كم مرة أعاد التاريخ نفسه؟ إن بلاد الإغريق التي استولى عليها غزاة الرومان غزت هؤلاء الأجلاف ونقلت إلى سهل لايتوم الريفي فنون الحضارة.
ناپیژندل شوی مخ