ومنذ أن أصبحت دراسة اليونانية جزءا من تثقيف الرجل المهذب، أصبح مما يبعث على الدهشة الأليمة دائما عند أكثر من يؤجرون لتعليم اليونانية أنه لا يوجد شعب من الشعوب أكثر جرأة على الاستمتاع بالحياة من الشعب الأثيني. لا شك أنهم كانوا يعرفون ما هو الخجل؛ لأنهم مخترعوه. اخترعوه لأن الحس عندهم كان مرهفا إلى درجة لم يسبق لها مثيل، ولكن الأثينيين لم يخجلوا من ملذاتهم، واسترسلوا فيها كذلك متحررين إلى حد كبير. إنما كانوا يخجلون من فقدان كل سيطرة على النفس، ومن تحولهم إلى حيوانات أو من وضع أنفسهم موضع السخرية، ويبدو أن وخز الضمير كان يطاردهم في أعمال القسوة والعنف، ولكن ما كان أبعدهم عن ازدراء الملذات التي كانت الفلسفة اليونانية تعدها جزءا لا يتجزأ عن الحياة الطيبة؛ غير أن الأثينيين وضعوا «العقل» - فوق الملذات جميعا بل فوق كل شيء آخر- عاملا من عوامل الاعتدال والانسجام، ولا أحسب معلما من المعلمين يقصر في نقل ذلك إلى تلاميذه حينما يشعر - وهو لا بد أن يشعر أحيانا - بشدة الصدام بين الأخلاق اليونانية والأخلاق اليهودية. ومن المؤسف أن الإيطاليين لعهد النهضة، الذين استعاروا الكثير من أثينا، لم يستطيعوا أن يستعيروا منها قدرا أكبر من هذا «التعقل الحلو»، ومن المؤسف أنهم أسقطوا هبة الاعتدال بشكل ما من بين مواهبهم الرفيعة. ومن المؤسف أنهم لم يستطيعوا السيطرة على ميلهم إلى المتعة بطريقة أفضل مما فعلوا - إنه أمر مؤسف، ولكنه لا يمس غرضي المباشر، ومن المؤكد أن الرجال والنساء لعهد النهضة لم يكونوا يخافون الأشياء الطيبة في هذه الحياة. كانوا يستطيعون الاستخفاف بالتنجيم والسحر، وكانوا يستطيعون إهمال تلك الخرافات التي كانت تحول بينهم وبين لهوهم. كانوا لا يشعرون بالخجل، وإن لم تصدقني فاقرأ بنفنيوتو شليني في سيرته التي كتبها بقلمه. قال لاون العاشر: «ما دام الله قد أعطانا البابوية فلنستمتع بها»، وهو يعني بالضبط ما يقول. كانت ملذاته ملذات الرجل الضالع في المدنية (كان يمثل عصره خير تمثيل وعصره يمثل حضارة النهضة): وكانت ملذاته تتضمن تقدير الفن والأدب، والموسيقى والدراسة، وكان من بينها الغناء، وكذلك النساء والنبيذ. إن قداسته لم يخجل من شيء من هذا.
واقترب ذلك القرن الثامن عشر المحبوب مرة أخرى من المثل الأعلى عند الإغريق. إن سحر ذلك العصر الساحر ينبعث حقا - ربما أكثر من أي شيء آخر - من تعقله البالغ الذي يحليه إحساس بالقيم لا مثيل له، ولست أشك في أن هذا المزيج هو الذي يعطينا المدنية الرفيعة. وقد بلغت النهضة الإيطالية مدنية أرقى من أي مستوى كان يمكن أن يطوف ببال العصور الوسطى؛ لأن إحساس النهضة الإيطالية الجمالي الغريزي كانت تخفف من حدته وتعززه عقيدة في العقل أكثر جدية بدرجة كبيرة من ذلك الإحساس الذي كان مصدر الوعي لفلاسفة العصور الوسطى المتحذلقين، وإن ما يعطي النصف الثاني من القرن الثامن عشر حلاوته الخاصة به هو هذا؛ بينما كان الرجال - والنساء كذلك - يفكرون بعنف وجرأة في كل أمر من الأمور كما فعل أي قوم غيرهم ممن سبقوهم، وبينما كانوا لا يكتفون بالتأمل، بل كانوا مستعدين ليروا آراءهم تتحول فعالا، بينما كانوا كذلك مكنهم إحساس بالقيم أن يبثوا دعوتهم للنقد ونشاطهم الهدام بتلك الرقة البالغة التي اتسم به الجيل السابق، وخلصت عقيدتهم في اللذة حتى رأوا أن السياسة نفسها يجب أن تكون مستساغة، وكان يطلب إلى رجال الاقتصاد أن يعرضوا نظرياتهم في صيغة تقبلها السيدات الرقيقات، ولكن يجب ألا ننسى أن السيدة لكي تكون رقيقة كانت ترغم على الاهتمام بالنظريات - إن هؤلاء القوم المحببين إلى النفس الشجعان كانوا يرون أن البحث الجدي في الأمور الأساسية لم يكن يتعارض وصحة المزاج أو الإنسانية، والقرن الذي أنجب فلتير وجبون وهيوم واثنين من البابوات المتفلسفين، لم يتصف بالنزاهة العقلية للتقدميين فحسب، بل اتصف كذلك بالتسامح مع المتشككين وسلوك السيدات والسادة. إن مثل هذا المزج يبدو دائما جذابا، وبخاصة في عصر بلغ به سوء الحظ أن يعاني ثائرين تنقصهم الفطنة كما ينقصهم حسن السلوك، ورجعيين ينقصهم حسن السلوك كما تنقصهم الفطنة.
العقل في القرن الثامن عشر هو الذي كان يرجى منه أن يجعل الأمور مستساغة بتطهير الميول من غلظتها وتوحشها، وكانت اللذة - اللذة المعقولة - هي غاية ما يشتهيه الرجل المخلص. القرن الثامن عشر هو الذي جعل اللذة المحك في الجدل السياسي، كما جعله يحكم على النظم والمشروعات الحكومية بمقدار ما تؤدي إلى ازدياد سعادة الإنسان. القرن الثامن عشر هو الذي اكتشف في حسرة أن الماضي الخيالي كان يتخبط في مسير هذا الاتجاه، وكان بالبؤس المدقع الذي ساد في القرن الحادي عشر أشد منه تأثرا بسحر الحرب الصليبية الأولى، وفي القرن الثامن عشر - للمرة الأولى منذ نهاية العالم القديم - تطورت وشرحت شرحا وافيا فلسفة للذة في مجلدات ممعنة في سلامة التفكير، إن لم تكن ممعنة في البحث والتقصي. فلسفة يمكنك أن تلم بعصارتها إلماما لا بأس به من قصص فولتير وكتاباته المتنوعة. مثال ذلك: «... كان العالم كله يقول بأن الآلهة لم يقيموا الملوك إلا لتكون الأيام كلها أعيادا، على أن تكون منوعة؛ إذ إن الحياة أقصر من أن ننفقها في غير ذلك. وليست الأفعال والدسائس والحروب ومنازعات رجال الدين التي تستنفد حياة الناس إلا أمورا مزعجة سخيفة: ذلك أن الإنسان لم يولد إلا لكي يستمتع بنفسه. وإنه ما كان ليعشق المتعة دائما وبكل قلبه لولا أنه من أجلها خلق. إن جوهر الطبيعة البشرية هو الاستمتاع بالنفس. وما عدا ذلك حماقة وسخف. وهذا مذهب خلقي ممتاز لم تكذبه قط إلا فعالنا».
وينبغي ألا تفترض أن القرن الثامن عشر صاغ فلسفته لصالح طبقة واحدة فقط، بل على العكس من ذلك كان القرن الثامن عشر يرى أن التقدم ينحصر في نشر جميع وسائل المتعة تدريجا - الوسائل التي تؤدي مثلا إلى إشباع الطبائع «لأن المتعة من صميم الطبيعة الإنسانية». كانت فلسفة اللذة - تحت اسمها المعروف في العالم القديم بحب الإنسانية - شائعة إلى أبعد الحدود؛ أما اليوم فهذه الفلسفة توصم بتقصيرها دون المثل العليا، ما دامت تهدف إلى إرضاء الفرد أكثر مما تهدف إلى تمجيد الجنس، أو المذهب أو الطبقة. إنها فلسفة يمقتها الوطنيون كما يمقتها الشيوعيون، ولم يعد يؤمن بوجاهتها سوى قلة من المتشبثين بالقديم.
ولما كان - من زمن بعيد - من رأى أولئك الذين تؤخذ آراؤهم عامة مأخذ الجد، أن أثينا في أخريات القرن الخامس رفعت المدنية إلى درجة لم يسبق لها مثيل، فليس من الخطأ - فيما أحسب - أن أختم هذا الفصل بتحليل ما اتفق على أنه أحسن صورة للمجتمع الأثيني في أوجه. إذا كان الشعراء والعلماء والفنانون، وكذلك الأساقفة والقضاة، والمثقفون من التجار، وإذا كان الفلاسفة الوثنيون، بل ورعاة الكنيسة - إذا كان هؤلاء جميعا يعدون «محاورة المأدبة» لأفلاطون من أجمل المؤلفات وأبعدها أثرا التي أنجبتها القرائح البشرية، فإن ذلك لا يعود إلى الآراء البراقة التي تضيء لامعة خلال آراء سقراط المعقدة أكثر مما يعود إلى الصورة الرائعة التي تعرض طريقة رائعة من طرق الحياة. في هذا الحوار الجميل نرى لمحة - بل وأكثر من لمحة - من مدنية يبدو أنها أقرب إلى رغبات القلب من أي شيء آخر كانت تعده ممكنا تلك العصور التي لم تبلغ من نفوسنا مبلغ العصر الأثيني. ومع ذلك فإن هذه الصورة لطريقة معينة من طرق الحياة إنما تشف عن لحظة من اللحظات في تلك الصورة المثالية التي يلمحها الفنان ويخلدها. ولنذكر أن الصورة ليست رؤيا قديس مذهول مستغرق في التفكير، وليست خطة لنموذج سماوي لا نستطيع بلوغه لما في نفوسنا من نقص، وإنما هي صورة عاشها من قبل أناس يجوز عليهم الفناء، ويمكن أن يعيشها الناس مرة أخرى.
هذه قصة يرويها أبولورس نقلا عن أرستوديموس، وهو - كما يقول زنفون - كافر، ضئيل الجسم يسير دائما بغير حذاء، عضو تافه في تلك المجموعة التي كان يلمع فيها سقراط وأجاثون. وفيدرس وبوسانياس وأركسيماكس وأرستوفان والقبيادس - كانوا مجتمعين في حفل عشاء ودي أقامه أجاثون احتفالا بنجاحه في المباراة بين شعراء المأساة، وكان اليوم السابق قد خصص لتهاني الجمهور، وهي دلالة طيبة على الجدية التي كانت تؤخذ بها الفنون في أثينا، وفي طريقه إلى الحفل التقى سقراط - وهو في ثياب فاخر على غير عادته - بأرستوديموس الذي يبحث بطبيعة الحال عن السبب في هذا البهاء الذي لم يألفه، فقال له: «إني متوجه إلى العشاء عند أجاثون»، ثم روى سطرا محرفا عن يوربديز، وقال بعدئذ: «إني أنيق أتوجه في أناقة إلى رجل أنيق»، ثم يشير سقراط - وهو بإجماع الرأي أقبح وأقذر شخص في أثينا - على أرستوديموس أن يرافقه، فيتردد أرستوديموس؛ لأنه لم يدع للحفل. بيد أن سقراط يلح في الرجاء؛ لأنه يعلم أن الكرم وحسن الزمالة من الفضائل التي لا يتحلى بها المتوحشون. ولما لم يفلح في إلحاحه، تخلف متفكرا حتى يصل صاحبه المتردد وحده فيطمئنه أجاثون، الذي يذكر له أنه كان يبحث عنه طيلة النهار مشغوفا برفقته، ولكنه لم يعثر له على أثر.
ويصل المدعوون، ويلتفت أجاثون إلى الخدم قائلا لهم: «أرجو أن تعدونا جميعا ضيوفكم، وأن تعاملونا بهذه الصفة»، وقد كان أجاثون - فوق كونه شاعر مأساة - شخصية ساحرة كما كان رجلا موهوبا، وكان كذلك حسن البزة، فأبى أن يقوم بدور الداعي المضيف، وأخيرا وآخرا يصل سقراط. ويرفض الجلوس، بل يرفض الاتكاء، إلا بعد أن يستمتع بدور مما لا أستطيع أن أصفه إلا «بالمغازلة الساخرة» مع أجاثون - وهي مداعبة لست في حاجة إلى أن أقول إنها قوبلت بروح طيبة - وفي نهايتها تناول الجميع طعام العشاء. والآن دعنا نلقي عليها نظرة عابرة: كان بين الحاضرين شاعران، أجاثون وأرستوفان، والطبيب أركسيماكوس، وذلك المفلس المشعث الذي يعظ الناس في زوايا الطرقات سقراط، وأخيرا القبيادس، وهو سياسي شعبي حسن النشأة، متأنق في ملبسه، وأغنى رجل في أثينا، وهنا أيضا فيدرس وبوسانياس، وهنا كذلك آخرون لا يذكر عنهم أرستوديموس شيئا؛ لأنه لا يزعم أنه يقدم قائمة كاملة بالأسماء أو سجلا لكل ما قيل، وبين هؤلاء الآخرون ربما كان صناع مهرة وعمال عابرون وسفسطائيون، لا يفضلون المتشردين إلا قليلا، ولكنا على ثقة من أنه لم يكن من بينهم من كرس خير سني حياته لجمع المال. إن الوقت الذي يعده رجال الأعمال في العصر الحديث مالا، كان عند سقراط للعبيد، ولم يخطر في بال أثيني أن إنسانا يخضع نفسه طائعا لذلك النظام الذي هو حياة جامعي المال، أولئك الذين يعيشون للعمل. كان الأثينيون يرون أن الرجل لكي يكون كامل المدنية ينبغي أن يتحرر من الأعباء المادية، وحيث إنه لا بد أن يتوفر له الفراغ الكافي يتمتع فيه بكل جميل يقدمه له العقل أو العواطف أو الحواس، فلا بد من وجود العبيد، وحيث إن هؤلاء العبيد يعيشون لينتجوا لا ليستمتعوا، وحيث إنهم لانعدام الثقافة والفراغ عندهم، يعجزون عن حرية التفكير ودقة الشعور، فقد كانوا أقل شأنا من غيرهم. كانت المساواة مطلقة بين المواطنين، ولم تعترف أثينا بالفوارق إلا في الذكاء والتعليم، وهي - لسوء الحظ من غير شك - حواجز طبيعية تعوق التبادل السهل الممتع. لم يكن بين المواطنين مميزات طبقية، ولم يكن في أثينا من يتعاظم على الآخرين.
وبعد العشاء أثار بوسانياس هذا السؤال: هل يعودون إلى الشراب ويسكرون، ويستمعون إلى الناس، أم يتحدثون، ويخرجون العازفة «تعرف لنفسها، أو - إن أرادت - للخدم في الداخل»؟ نحن هنا على أبواب محاورة من أسمى المحاورات في تاريخ البشر باعتراف الناس أجمعين، وعلينا أن نلاحظ جيدا موقف أولئك الذين يوشكون أن يجروها. إن العقل يجعلهم لا يخشون ما في الحياة من أشياء طيبة. إنهم لا يخجلون من الاستمتاع - حتى إلى درجة ما يسمونه الإفراط - يمثل الملذات التي توفرها الخمر والعازفات على الناي. إلا إنهم لا يدمنون ولا يفسقون. يدفعهم الإحساس بالقيم، تعززه إلى حد ما ذكرى شرابهم المساء، إلى أن يختاروا - في هذه المناسبة - لذة أروع، وهي لذة الحديث الجدي. وإن لم يكن جديا إلى درجة كبرى، فقد كانوا يستطيعون أن يتناولوه في دعابة؛ يمزحون مزاحا عقليا وجثمانيا، ويتنازعون نزاعا طفيفا عمن يجلس منهم جوار الآخر، يهزلون ويمرحون ويتبادلون الدعابة الصريحة، ومنذ بداية الجدل، حينما حل دور أرستوفان في الكلام، شكا من الفواق، ثم طلب أركسيماكس الطبيب إما أن يأخذ دوره في الحديث أو يشفيه مما أصابه؛ فيسارع أركسيماكس إلى أداء العملين، ويصف علاجا يثير الضحك وإن يكن فعالا. إن الرجال الضالعين في المدنية قلما يتصفون بالوقار.
ويعرف كل امرئ موضوع هذه المحاورة التي ذاع صيتها، كان موضوعها الحب، ولكن كثيرين لا يعرفون أن المتحاورين لكيلا يبطلون ما يصلون إليه من نتائج بتحديد قضايا البحث، لم يستبعدوا في حوارهم أي وجه من وجوه الموضوع. تحدثوا عن الحب في أدعى صوره إلى الإعجاب والتقدير، وكذلك تكلموا كثيرا مثنين على صورة من صور الحب يحكم بسببها على الناس في إنجلترا بالسجن، وإن استجابتي الغريزية لهذه الصورة لتشبه استجابة أكثر زملائي، إني أعجب لها أشد العجب وأقابلها بالتقزز والاشمئزاز، غير أني لم تبلغ بي الغفلة والغرور أن أثق في استجابتي ثقة عمياء وأعترض على عاطفة أحستها، وأرى ثابت ارتأته جماعة من أحكم وخير الناس قاطبة، وإني لأذكر أولئك الناس الضالين المفزعين الذين يأكلون الجبن وأحاول ألا أكون سخيفا، ولا أستطيع أن أعطي نفسي حق الحكم أيهما أفضل ذوقي أو ذوق سقراط وصحبه. ولكن أستطيع أن أصغي باحترام لحجج خصومي الذين يبعثون الذعر في نفسي، وأستطيع أن أمتنع عن أن أجعل من استجابتي الجثمانية استنكارا خلقيا، وأستطيع أن أحتج من كل قلبي ضد من يصم بالجريمة ما بدا خيرا لكثير من عظماء الرجال. لا يحق لأحد أن ينعت نفسه بالمدنية إلا إن استطاع أن يستمع إلى الطرفين، ولا يفضل الحيوان من لا يتسامح في أمور كثيرة كريهة له شخصيا.
ليس في نيتي أن أناقش «محاورة المأدبة» إلا بمقدار ما تلقي على موضوعي ضوءا. وأستطيع أن أنوه بالرغبة الحقيقية في الحق الذي تنطوي عليه أكثر الخطب، وأن أنوه بالإحساس بالقيم الذي يحمل كل متكلم على أن يعرض قضيته عرضا جميلا بقدر ما يستطيع. وحتى سقراط نفسه لم يجادل لينتصر في الجدال، ولم يكن من بينهم من يمتنع عن التسليم حينما يكون ضعيفا في موقفه. فيدرس يتكلم جادا، وبوسانياس متحذلق قليلا، وأركسيماكوس يميل إلى مهنته. إلا أن الطبيب - على خلاف أكثر زملائه - لا يخشى أن يجابه ما يترتب على علمه من نتائج، ويشير بعقل يدعو إلى الإعجاب أنه ينبغي لنا ألا نخضع لبانديميون فينس (ويقصد بها الشهوة) «إلا بمقدار ما نستمد منها اللذة دون أن نسترسل فيها إلى حد الإفراط، مثلنا في ذلك - طبقا لفننا - مثل ما نلقنه من البحث وراء متعة المائدة، بمقدار ما نستسيغها دون أن يترتب عليها مرض وحسب». (وهذه العبارة نقلا عن ترجمة شلي). وهناك بعد ذلك حديث أرستوفان، وهو عندي حديث بلغ غاية الإشراق. إنه بما يحوطه من دعابة عقلية عذبة يؤدي - بطرق تثير فينا غاية الضحك ولا نتوقعها - إلى نتيجة جدية، يشير إليها الكاتب تلميحا لا تصريحا، لا تكاد تظهر حتى تختفي في أقمطة كثيرة الألوان. وفي هذه الآونة أخاطر بالاستعارة والتشبيه. وأذكر هنا تعثر الآلهة تعثرا لا يحفظ لهم قداستهم بما يدل في جلاء تام على أن هذه الجماعة المتمدنة قد صفوا أمر الخرافات السائدة، ويؤسفني أن أقول: إن الحديث لا يخلو من النكات البذيئة. ولكنا قد اتفقنا على أن الميل إلى الكلام والسخرية في كل أمر مميز من مميزات الشعب المتمدن. ولا أتصور إلا أن قليلا من العاشقين - حتى أكثرهم رقة وأشدهم تهذيبا - هم الذين يرون موقفهم استثناء من هذه القاعدة. «هؤلاء (أي أولئك الذين عثروا على أنصافهم المفقودة) هم الذين يكرسون حياتهم كلها أحدهما للآخر، في شوق لا طائل تحته ولا يمكن التعبير عنه إلى أن يجد كل منهما عند الآخر شيئا لا يدري ما هو؛ لأن الواحد منهما لا يهدي نفسه للآخر بكل هذا العشق الجدي لمجرد المتعة الحسية من الاتصال، وإنما تتعطش روح كل منهما في وضوح وجلاء إلى شيء عند الآخر لا يمكن التعبير عنه في كلمات، وتقدس ما تسعى إليه، وتتعقب في غموض مظان رغبتها الغامضة». (نقلا عن ترجمة شلي).
ناپیژندل شوی مخ