معقول او نا معقول په زموږ فکري میراث کې
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرونه
وسنختار في موقفنا هذا من الفيلسوف العربي الأول، شذرات قليلة من رسائله، وهي ما كان منها خاصا بمحاولاته في تعليل طائفة من الظواهر الطبيعية، كالمطر والضباب ولون السماء وما إلى ذلك، وهي وإن تكن مسائل عارضة لا تمس شيئا من صميم فلسفته، إلا أنها تقدم لنا لمحة من الإطار العقلي الذي عاش فيه (وما قد اخترناه هنا من رسائله مأخوذ من الجزء الثاني من «رسائل الكندي الفلسفية» نشر الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة).
فلماذا تمطر بعض الأقطار دون بعض؟ هكذا سئل الكندي فأجاب سائله بما خلاصته: بعد أن ذكر أثر الشمس في تسخين الأرض والهواء، تسخينا تتفاوت درجاته بالنسبة إلى قرب المكان أو بعده من الشمس ، قال: «وكل جسم برد انقبض، واحتاج إلى مكان أصغر من مكانه قبل برده، وكل جسم حمي انبسط، واحتاج إلى مكان أعظم من مكانه قبل حميه، فسال الهواء من جهة الموضع المنبسط الحار إلى جهة الموضع المنقبض البارد، وسيلان الهواء هو المسمى ريحا، فإن عادتنا أن نسمي سيلان الهواء ريحا وسيلان الماء موجا؛ فلذلك ما يكون أكثر رياح الزمان الذي تكون فيه الشمس في الميل الجنوبي حاميا؛ لمسيلها من الجنوب - المتسع بإحماء الشمس للمواضع التي في جهة الجنوب - إلى الشمال المنقبض ببرد هواء الجهة الشمالية التي بعدت عنها الشمس ...» «فإذا كانت الشمس في الميل الشمالي، حميت المواضع التي في الجهة الشمالية ، وبردت التي في الجهة الجنوبية، سال الهواء الشمالي واتسع لحرارته إلى الجهة الجنوبية، لانقباض الهواء الجنوبي ببرده؛ فلذلك تكون أكثر رياح الصيف شمائل، وأكثر رياح الشتاء جنائب ...» (ص71). «فإذا تناهى البخار إلى موضع، بعده من سمت الشمس بعد يبرد جوه بالمقدار الذي يحصر ذلك البخار ويغلظه ويكثفه، استحال ما ماسه من الهواء ماء، فانحلت أمطارا سائلة إلى الأرض ما كان فيه من البخار المائي ...» (ص72). «فأما إذا كانت المواضع التي ينتهي إليها البخار مواضع عادمة لما يحصر بخارها ويبرده، تعداها البخار ...» (ص73).
تلك أسطر من إجابة الكندي في التعليل لسقوط المطر، آثرنا نقلها بنصوصها؛ ليرى القارئ نموذجا من دقة العبارة العلمية كيف أوشكت بصاحبها على أن يضبط اللفظ ضبطا لا يزيد على المطلوب كلمة ولا ينقص كلمة.
كذلك أجاب الكندي سائله في تعليل الضباب، إجابة فيها الدقة نفسها التي لحظناها في تعليله لسقوط المطر، فبدأ جوابه عن ظاهر الضباب هكذا: «إن الأبخرة إذا علت في الجو انعقدت، إذا عرضت لها الأسباب المبردة التي حددنا في رسالتنا (عن المطر) وكان منها الغمام، فإن ثبت في موضعه إلى أن تتم استحالته وفساده، لم يحدث الضباب من ذلك الغمام، وإن عرضت ريح في الجو أعلى من الغمام، فحطته إلى الأرض حتى يماسها، كان ما انحط من الغمام وانتهى إلى الأرض ضبابا؛ فإن الضباب ليس هو شيئا غير غمام منحط إلى وجه الأرض، متحلل بحمي الهواء المماس الأرض؛ ولذلك إذا كان الضباب تاما عظيما كان دليل صحو؛ لأن العلة التي حطته من العلو، تعدمه الموضع الأعلى من الجو الذي يمكن أن ينعقد فيه الغمام ويتحلب منه ماء» (الجزء الثاني من رسائل الكندي الفلسفية، ص76).
وسأله السائل تعليلا لما يرى من اللون اللازوردي في جهة السماء، ويظن أنه لون السماء، فيجيب بدقته العلمية في صياغة العبارة الوصفية، بما ملخصه (والتلخيص لناشر الرسائل) (1) لون السماء - إن كانت ذات لون - لا يمكن إدراكه بالحس، كما لا يمكن معرفته بالاستدلال. (2) كل الأجسام الشفافة، أو المتخلخلة، كالهواء والماء واللهب - وهي الأجسام «السيالة» أو غير المتضامة الأجزاء - أو هي الأجسام «التي ليست منحصرة في ذاتها» بتعبير الكندي، لا لون لها، ولا تستضيء بذاتها. (3) الجسم الذي يتأثر بالضوء هو الجسم «المنحصر» (أي المتكثف الأجزاء) وهو يقبل الحرارة في ذاته ويعكسها، كما أنه يقبل الضوء لا في ذاته، وإن كان يعكسه، وإذن فمصدر الضوء الذي نشاهده هو انعكاس الضوء من جسم عاكس له، وهذا الضوء لا يرى بذاته، بل منعكسا من جسم. (4) تتفاوت الأجسام المستضيئة بحسب قابليتها لأن تعكس الضوء. (5) الضوء الذي نراه في الجو ضوء منعكس من الذرات البخارية والأرضية التي يحملها الهواء، وإذا تجاوزنا طبقة الهواء الحامل لهذه الذرات، انعدم ما يعكس الضوء وكان الظلام، كما أن الحرارة في الجو المرتفع تنعدم لعدم وجود الجسم الذي ينفعل بها؛ ولذلك توجد البرودة في الجو المرتفع. (6) النار لا لون لها، إنما اللون للأجسام التي تستحيل نارا بحسب طبيعتها؛ وذلك لأن اللون لا يكون إلا للجسم المنحصر (أي الكثيف) المتضام الأجزاء الذي يعترض البصر. (7) الكواكب أجسام ذات لون، فهي «منحصرة» بدليل أن بعضها يكسف بعضا. (8) لما كانت طبيعة الجو المرتفع الخالي، هي الظلام؛ لعدم وجود ما يعكس الضوء فيه، وكانت طبيعة الجو القريب من الأرض تسمح باستضاءة ضعيفة بواسطة الذرات الموجودة في هذا الجو، والتي تعكس الضوء، فإن الكندي يخرج من ذلك بأن لون الجو - وهو المسمى السماء - لون مختلط من ضياء وظلام، وهو اللون اللازوردي الذي لا يعدو أن يكون لونا ظاهريا؛ لأنه شيء يعرض للبصر (رسائل الكندي، ج2، ص101-102).
تلك نماذج قليلة من فيض غزير، أردنا بها أن نقدم مثلا للطريقة العلمية في المشاهدة ودقة الوصف عند فيلسوفنا العربي، كفينا أنفسنا مئونة الخوض في نتاجه الفلسفي الخالص؛ جريا على السنة التي رسمناها لأنفسنا في متابعة «العقل» حيثما وجدناه في الوقفات الثقافية العامة، دون الدراسات المتخصصة المتعمقة الفاحصة. •••
وإنه ليطيب لنا في هذا المقام أن نقدم عن الكندي نتفا من الصورة الحية التي رسمها له الجاحظ في «البخلاء»؛ فذلك كفيل بأن يجسد لنا الرجل في صورة إنسانية، لها جوانب قوتها وجوانب ضعفها؛ إذ ما أيسر أن ينزلق الإنسان مع الوهم، فلا يكاد يتصور أمثال هؤلاء العظماء في دنيا الفكر ناسا كسائر الناس في أمور معاشهم! يقول الجاحظ فيما يقول عنه، وقد كان الكندي مالكا لعقار: «كان الكندي لا يزال يقول للساكن، وربما قال للجار: «إن في الدار امرأة بها حمل، والوحمى ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة، فإذا طبختم فردوا شهوتها ولو بغرفة أو لعقة؛ فإن النفس يردها اليسير ...» فكان ربما يوافى إلى منزله من قصاع السكان والجيران ما يكفيه الأيام ... وكان الكندي يقول لعياله: «أنتم أحسن حالا من أرباب هذه الضياع؛ إنما لكل بيت منهم لون واحد، وعندكم ألوان ...» [وقال أحد المستأجرين لداره]: قدم ابن عم لي ومعه ابن له، وإذا رقعة من الكندي قد جاءتني: «إن كان مقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين، احتملنا ذلك، وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة يجر علينا الطمع في الليالي الكثيرة.» فكتبت إليه: «ليس مقامهما عندنا إلا شهرا أو نحوه.» فكتب إلي: «إن دارك بثلاثين درهما، وأنتم ستة، لكل رأس خمسة، فإذا قد زدت رجلين، فلا بد من زيادة خمستين، فالدار عليك من يومك هذا بأربعين.» فكتبت إليه: «وما يضرك من مقامهما، وثقل أبدانهما على الأرض التي تحمل الجبال، وثقل مؤنتهما علي دونك، فاكتب إلي بعذرك لأعرفه، ولم أدر أني أهجم على ما هجمت، وأني أقع منه فيما وقعت.» فكتب إلي: «الخصال التي تدعو إلى ذلك كثيرة، وهي قائمة معروفة؛ من ذلك سرعة امتلاء البالوعة، وما في تنقيتها من شدة المؤنة، ومن ذلك أن الأقدم إذا كثرت، كثر المشي على ظهور السطوح المطينة، وعلى أرض البيوت المجصصة، والصعود على الدرج الكثيرة، فينقشر لذلك الطين، وينقلع الجص، وينكسر العتب، مع انثناء الأجذاع لكثرة الوطء، وتكسرها لفرط الثقل. وإذا كثر الدخول والخروج، والفتح والإغلاق، والإقفال وجذب الأقفال، تهشمت الأبواب وتقلعت الرزات، وإذا كثر الصبيان وتضاعف البوش نزعت مسامير الأبواب، وقلعت كل ضبة، ونزعت كل رزة ، وكسرت كل حوزة ... هذا مع تخريب الحيطان بالأوتاد وخشب الرفوف.
وإذا كثر العيال والزوار والضيفان والندماء، احتيج من صب الماء واتخاذ الحببة القاطرة، والجرار الراشحة، إلى أضعاف ما كانوا عليه؛ فكم من حائط قد تأكل أسفله، وتناثر أعلاه، واسترخى أساسه، وتداعى بنيانه، من قطر حب ورشح جرة ومن فضل ماء البئر ومن سوء التدبير، وعلى قدر كثرتهم يحتاجون من الخبيز والطبيخ، ومن الوقود والتسخين، والنار لا تبقي ولا تذر، إنما الدور حطب لها، وكل شيء فيها من متاع فهو أكل لها، فكم من حريق قد أتى على أصل الغلة، فكلفتم أهلها أغلظ النفقة، وربما كان ذلك عند غاية العسرة وشدة الحال؛ بما تعدت تلك الجناية إلى دور الجيران، وإلى مجاورة الأبدان والأموال، فلو ترك الناس حينئذ رب الدار وقدر بليته ومقدار مصيبته، لكان عسى ذلك أن يكون محتملا، ولكنهم يتشاءمون به، ولا يزالون يستثقلون ذكره، ويكثرون من لائمته وتعنيفه» ...» ونكتفي بهذا القدر من تلك الصورة الأدبية الساخرة بالفيلسوف الكندي (راجع «البخلاء» تحقيق طه الحاجري، قصة الكندي، ص81-93).
49
لم يكن قد مضى على موت الكندي إلا خمسة أعوام، حين ولد الفارابي (870-950م)، ونحن إذ نكون في صحبة الفارابي، فإنما نكون مع رجل ذي أصالة أصيلة في الفكر الفلسفي وفي تحليل الفنون من شعر وموسيقى، فلم يقتصر الرجل على أن تمثل فلسفة أرسطاطاليس وأن درس المنطق الأرسطي شارحا إياه، ومن ثم أطلق عليه اسم «المعلم الثاني» - على اعتبار أن أرسطاطاليس هو المعلم الأول بمنطقه - بل زاد الفارابي على ذلك من تفكيره الفلسفي والنقدي ما عظمت به مكانته في عالم «العقل» من تراثنا الفكري، وإذا كان لا مندوحة لنا عن الاكتفاء بلمحة من دنيا الرجل - جريا على منهاجنا في هذا الكتاب - فلتكن تلك اللمحة وقفة عند كتابه «إحصاء العلوم».
ناپیژندل شوی مخ