معقول او نا معقول په زموږ فکري میراث کې
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرونه
وهنا لا بد لنا من وقفة نتأمل فيها هذا الميل العربي الأصيل نحو الإيجاز في القول ونحو الإضمار بدل الإفصاح، فإذا أدركنا أن ذلك الموقف إنما يتضمن التعميم والتجريد، وعدم العناية - إلا بأقل قدر ممكن - بالتفصيلات الجزئية المتعينة بمكانها وزمانها، أو، بعبارة أخرى، عدم العناية أكثر مما يلزم بالأفراد والمفردات؛ لأنها زوائل عوابر، ولا يحسن الوقوف عندها إلا بمقدار ما نتكئ عليها للصعود نحو الأعم ونحو المجرد، أقول: إذا أدركنا ذلك كنا قد وضعنا أصابعنا على ركن ركين من وجهة النظر العربية الأصيلة، فالتفصيلات الجزئية - على أهميتها في الحياة العملية - هي رواسب على الأرض كالحجر والحصى، وأما الارتفاع عنها بالقول العام المجرد فهو أخذ في الطيران على جناحي العقل إلى السماء، وبعدئذ تكون الخطوة قصيرة نحو «المطلق»، نعم إننا في هذه التثنية التي تشطر العالم إلى ما هو أعلى وما هو أدنى، والتي قد تجد انعكاسها في قسمة الإنسان إلى روح وجسد، بحيث تكون للروح المكانة العليا الجديرة بالعناية والرياضة، ويكون للجسد المكانة الدنيا التي تستحق الزراية والإهمال والكبت. أقول: إننا في هذه التثنية التي تركل الأدنى بقدميها وتشرئب برأسها إلى الأعلى، نكشف عن جوهر فينا أصيل، محال علينا أن نرى عصرنا هذا من خلاله، فعصرنا هذا القائم على العلم وعلى الصناعة في الاقتصاد، وعلى الحرية والديمقراطية في الحكم، إنما يتعذر على أهله أن يصطنعوا وجهة نظر تغض النظر عن المفردات وعن الأفراد، فالمفردات الجزئية الواقعية هي الينبوع الذي تنبثق منه نظريات العلم وقوانينه، وهي الأرض التي تكون عليها تطبيقات الصناعة وضروب نشاطها، وكذلك الأفراد - أفراد الناس - هم الدعامة الأولى التي بغيرها يصبح الحديث عن الحرية وعن الديمقراطية في الحكم حديثا أجوف فارغا، فإذا كانت روح اللغة تهديك إلى فلسفة المتكلمين بها، ثم إذا كان الأغلب على العربي أن يطير عن أرض الوقائع الجزئية إلى حيث القول المجمل المحكم السريع، فهو في ذلك إنما يصدر عن فلسفة مركوزة في أعماق طبعه، وهي أن العبرة بالفكرة لا بالمفردات التي تجسدها، لا سيما إذا صيغت الفكرة في لفظ مصقول متين البناء، فعندئذ صح: إلى الجحيم بالدنيا وما فيها ومن فيها، من فقر هو في حقيقته «فقراء»، ومن مرض هو في واقعه «مرضى»، ومن ظلم هو على الأرض «ظالمون» و«مظلومون».
37
ونترك هذا لنمضي مع المؤلف وهو يطرح علينا قضية أخرى، ثم يقف منها موقفا عقليا لا يتسلل إليه ذرة من هوى، والقضية المطروحة لغوية، لكن المبدأ الكامن وراءها يصح أن يكون مبدأ لكل جانب آخر من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية، وهي: إجماع أهل العربية على شيء، متى يكون حجة؟
يجبب ابن جني قائلا: «اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص والمقيس على المنصوص، فأما إن لم يعط يده بذلك، فلا يكون إجماعهم حجة عليه؛ وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ» (ج1، ص189).
ولكي نلقي شيئا من الضوء على هذا المبدأ الفكري العظيم، نقول: إن الصواب والخطأ - كائنا ما كان الموضوع الذي يوصف بأيهما - لا يكون لهما معنى إلا بالقياس إلى مرجع يرجع إليه خارج الحقيقة نفسها التي نصفها بالصواب أو بالخطأ، أي إن الجملة نفسها لا تحمل في ذاتها مقياسا، فأولا - حين تكون الجملة دالة على أمر من أمور العالم الخارجي، كأن تقول مثلا: إن ذرة الماء تتألف من ذرتين من الأيدروجين وذرة من الأوكسجين، فعلى أي أساس نقيم صوابها؟ إننا لا نقيمه بمجرد النظر إليها وإلى مفرداتها وإلى طريقة تركيبها، بل نقيمه بأن نجاوز حدودها إلى شيء سواها وهو عينة فعلية من الماء، نحللها في المخابير؛ لنستوثق أنها على هذا النحو ركبت، بل إن الجملة الرياضية نفسها، كقولنا «2 + 3 = 5»، وهي ضرب من القول نزعم له دائما أنه يحمل صدقه في طريقة بناء أجزائه، دون الرجوع إلى معدودات خارجية في الواقع الفعلي؛ وذلك لأنه يكفينا أن ننظر في شطري المعادلة لنعلم أن أحد الشطرين يقول ما قاله الشطر الآخر برغم اختلاف الرموز التي يستخدمها، وما دام الأمر كذلك، فكأننا نقول في هذه الحالة إن «س» هي «س»، وبذلك يتحتم الصدق، ولماذا يتحتم؟ لأنه قائم على مبدأ الهوية بين الشطرين، فهذا الشطر من المعادلة هو نفسه ذاك، أو هو قائم - من ناحية أخرى - على مبدأ عدم التناقض، فليس بين الشطرين قول ونقيضه، لكننا نلاحظ هنا أن حكمنا بصواب القول إنما استند إلى «مبدأ» ذي وجود عقلي يجاوز حدود المعادلة نفسها .
صفوة القول: إن المتجادلين في أي موضوع - من اللغة أو من غيرها - لا يسيران في الجدل على هدى، إلا إذا اتفقنا بادئ ذي بدء على «المرجع» الذي يرجع إليه عند الحكم بصواب أو بخطأ على قول يقوله أحدهما، فإذا اتفقا على هذا المرجع، وضح أمامهما سبيل الاتفاق، وإلا فكل منهما يسير على طريق غير طريق الآخر، فلا يلتقيان.
ونرجع إلى عبارة ابن جني عن قيمة «الإجماع» من حيث هو معيار يفصل في مواضع الخلاف كلما نشأت بين متجادلين، فهو يقول: إن إجماع العالم بأسره على أمر لا يكفي حجة، اللهم إلا إذا اتفق الخصمان منذ البداية على أن يكون حجة بينهما، أما إذا لم يسلم لك خصمك بأن يكون المنصوص والمقيس على المنصوص معيارا، ففيم إذن ذكرك أمامه لنص قاله قائل وأجمع عليه ألف ألف قائل؟
لكن ابن جني سرعان ما يصده «الإيمان» عن المضي مع المبدأ العقلي إلى آخر الشوط، وذلك حين يبرر الخروج على الإجماع بأن مثل هذا الخروج لم يرد منعه ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة، ناسيا - فيما يظهر - أن القرآن والسنة بدورهما «نصوص»، وإذا كانت هذه النصوص واجبة الطاعة عند المؤمنين بها، فليست هي كذلك عند غير المؤمنين، ولا كذلك الأخذ بمقاييس المنطق العقلي الصرف؛ لأنه عندئذ لا يكون فرق بين إنسان وإنسان على أساس من الإيمان، افرض - مثلا - أنني قلت إنه إذا كانت «س» أكبر من «ص»، وكانت «ص» أكبر من «م»، فإن «س» تكون أكبر من «م»، فها هنا يكون الأمر ملزما بالقبول على مبدأ يقول: إنه إذا صدق حكم على شيء ما، كان صادقا على كل جزء من أجزائه؛ فقد كان ابن جني ليصبح أكثر فهما لمعايير العقل وأشد استمساكا بها لو أنه حذف من عبارته السالفة جزءها الأخير.
ولابن جني في هذا السياق نفسه عبارة أخرى تستحق الذكر، ويستحق التمجيد من أجلها؛ إذ يقول: «... فكل من فرق له عن علة صحيحة، وطريق نهجة، كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره» (ج1 ، ص190). ومعناها أن كل من اهتدى بتدليل عقلي سديد إلى تعليل مصيب، أخذ فيه النهج المنطقي السليم، فهو عندئذ يكون إمام نفسه، ولا حاجة به إلى الرجوع إلى إمام آخر يطلب منه التأييد؛ إذ لا ينقصه عندئذ أن يجد الموافقة عند الخليل بن أحمد أو عند أبي عمرو بن العلاء أو غيرهما من أئمة اللغة، فكما يقول المعري: «لا إمام سوى العقل» فلو توافرت لك مناهجه وأدلته ونتائجه فحسبك ذلك إماما.
أليس من أعجب العجب بالنسبة إلينا نحن، وفي عصرنا بكل ما قد دعا إليه وجاء به من جديد لم يكن ليطرأ ظل منه على بال أحد من الأقدمين، نجد بيننا من يحمله عمى البصيرة على الاعتقاد بأن الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئا، وإذن فما على هؤلاء الأواخر إلا أن يرتدوا إلى الأوائل يعبون العلم كل العلم من صحائفهم؟! فإذا رجعنا إلى هؤلاء الأوائل وجدناهم يحذرون أنفسهم من الوهم بأن أوائلهم قد سدوا عليهم الطريق! فها هو ذا ابن جني، وهو في سياق القول بأن كل فرد يستطيع أن يكون إمام نفسه، إذا هو أحسن النظر والاستدلال، ويستشهد بقول الجاحظ: «ما على الناس شيء أضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئا» (عن ابن جني، ج1، ص190). فإذا لم يهدنا تراث آبائنا إلى هذه المبادئ العليا، فإلى أي شيء يهدي؟
ناپیژندل شوی مخ