146

معقول او نا معقول په زموږ فکري میراث کې

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

ژانرونه

من خدعة التحكيم انبثقت دولة وتفجرت فلسفة سياسية. السؤال القائل: لمن يكون الحكم؟ يطرحه الخوارج لأول مرة. الخوارج يضعون أصلح المبادئ في سياسة الحكم، لكن دعوتهم تذهب أدراج الرياح؛ من مبادئهم أن يكون الحكم للقادرين عليه لا للوارثين له عن آبائهم ولا للأقوياء ولا للأغنياء، ومن مبادئهم أيضا ألا تكون فجوة بين العقيدة والعمل بناء على تلك العقيدة، لكن موقف الخوارج مليء بالمتناقضات؛ قبلوا التحكيم ثم صاحوا: «لا حكم إلا لله.» علي نفسه في عجب من تناقضهم هذا. فظائع الخوارج مع من خالفهم في الرأي من المسلمين. قصتهم مع عبد الله بن خباب؛ يقتلون المسلم المختلف معهم في الرأي، ويتركون النصراني المختلف معهم في الرأي. قصة واصل بن عطاء إذ ادعى

قصة علي مع أحد المنجمين ودلالتها على احتكام القول إلى عقولهم،

(11)

موقفنا من المشهد الذي صورناه. تشابه الناس في كل العصور من حيث الدهاء والمكر والحيلة، لا فرق بين أقدمين ومحدثين، لكن الطابع البارز هو اجتماع العناصر الكثيرة في رجل واحد، فيكون هو السياسي والفارس والأديب وصاحب الحكمة الخالدة. لقد احتوى مشهد صفين على أقطاب كثيرين، لكننا نختار من بينهم عليا ليكون مرآة عصره، ويكفي أنه أورثنا كتابا - هو نهج البلاغة - نرى عقله على صفحاته، ومن هذا الكتاب نجد البرهان على أن الإدراك عندئذ كان موكولا إلى الفطرة السليمة لا إلى التحليل والتعليل. لم تكن «الفكرة» عندئذ نظرية مجردة بقدر ما كانت أداة من أدوات العمل؛ ولذلك تشابكت الأفكار مع السيوف والجياد في نسيج واحد. نماذج من نهج البلاغة.

الفصل الثالث: مصباح العقل في مشكاة التجربة (12)

رأينا في الصورة التي رسمناها لواقعة صفين؛ كيف كان أسلافنا يفكرون ويسلكون في المرحلة الأولى من مدارج طريقهم العقلي. أحكامهم عندئذ هي أحكام البديهة الفطرية حيث لا تكون الفكرة وليدة قراءة ودرس، ولا وليدة تأمل طويل في صورة مجردة نظرية، بل كانت الفكرة تأتي فور لحظتها لترد على موقف طارئ. في المرحلة التالية أصبح الفكر تقعيدا للقواعد وردا للتجارب الجزئية والخبرات المفردة إلى أحكام عامة، وذلك هو صميم المنهج العلمي، فالعلم بمنهجه لا بموضوعه؛ فالانتقال مع أسلافنا من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثامن، هو انتقال من مرحلة التمرس الفعلي والمعاناة إلى مرحلة الإدراك العلمي في أولى درجاته. كان العرب يتكلمون لغتهم قبل ذلك بقرون، لكن قواعد اللغة لم تضبط إلا في القرن الثامن؛ وكان للعرب شعر ينظمونه، لكن تفاعيله وبحوره وأوزانه لم تتم صياغتها إلا في القرن الثامن. كانت المرحلة الأولى بمثابة المشكاة من مصادر النور، ومع القرن الثامن بدءوا مرحلة أخرى تقابل المصباح في المشكاة. (13)

المشكلات الفكرية تجيء نابضة بالحياة حين تنبت في تربة الحياة العملية نفسها. مشكلاتنا الفكرية اليوم مصطنعة؛ لأنها منقولة عن مفكرين في غير أرضنا. جمهور الناس اليوم لا يجد في مفكرينا من يحل لهم مشكلاتهم فيلجئون إلى الخرافات ومروجيها. مشكلات الفكر عند أسلافنا نبتت لهم من واقع حياتهم؛ من واقعتي الجمل وصفين نشأت لهم مشكلة نظرية هي مشكلة الذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون بالنسبة لمقترفيها؟ ففي كلتا الواقعتين سفكت دماء للمسلمين، ولا بد أن يكون أحد الفريقين المتحاربين - على الأقل - على خطأ؛ وإذن فالجانب المخطئ منها مسئول عن تلك الدماء المسفوكة، فماذا يكون الحكم فيه: أيظن معدودا من المؤمنين أم يسلك في زمرة الكافرين؟ وسرعان ما انتقل البحث النظري إلى مشكلة أخرى تتفرع عن السابقة: من ذا يكون أحق بالخلافة؟ أي إن الفكر الفلسفي والفكر السياسي قد استثارهما ما حدث للناس في حياتهم العملية. رأينا في الفصل السابق كيف نبت «الخوارج» من أرض صفين، ومن واقعة الجمل نشأت مشكلة الخلافة؛ علي مع طلحة والزبير؛ فهذان تنكرا لبيعة علي بعد أن أقراها، ذهبا معا في صحبتهما عائشة نحو البصرة، وهنالك وقعت بينهم وبين علي موقعة «الجمل»؛ سميت كذلك لأن أم المؤمنين عائشة كانت في هودجها على ظهر جملها تشارك في مقاتلة علي وصحبه. انتصار علي وصحبه. الفريقان يتبادلان السباب، مع أن أم المؤمنين في الفريق الأول، وعلي بكل مكانته من رسول الله في الفريق الثاني، وكلا الفريقين في أعيننا اليوم تراث مقدس! ويهمنا الآن ما نشأ عن الموقف من أسئلة عقلية: أي الجانبين على حق؟ ما حكمنا فيمن يكون على باطل؟ (14)

الوقفة الثانية من رحلتنا الثقافية هي مدينة البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). توتر عقلي يسود الناس: تحت أية راية ينضوون؛ تحت راية فريق فيهم عائشة، أم تحت راية فريق آخر فيهم علي؟ أم يحايدون حفاظا على وحدة المسلمين؟ هل يعلون من شأن الإسلام باعتباره دينا للناس أجمعين، أو يعلون من شأن الانتماء القبلي أولا، وبعد ذلك يأتي الولاء للدين؟ في مدينة البصرة ظهرت الأحزاب ؛ من أنصار عائشة نشأ حزب «العثمانية»؛ أي أتباع عثمان، ومن أنصار علي نشأت «الشيعة»، ومن المحايدين نشأ الزاهدون المتطرفون الذين هم «الخوارج»، ومن هؤلاء ولدت حركة «المعتزلة». معركة الجمل هي نقطة البدء لكل تطور سياسي وديني ظهر بعد ذلك. من واقعة الجمل - كما أسلفنا - نشأ السؤال العقلي الأول: ماذا يكون الحكم بالنسبة للفريق المخطئ من المتحاربين؟ ظهرت ثلاثة حلول، كل حل منها أصبح يمثل مذهبا فكريا على طول التاريخ العقلي في تراثنا: (1) فهنالك اليساريون المتطرفون (بتعبيرنا الحديث) وهم الخوارج. (2) وهنالك اليمينيون المتطرفون وهم أهل السنة. (3) وهنالك المعتدلون وهم المعتزلة. أما اليساريون فقد رأوا تكفير المخطئ مهما يكن، وأما اليمينيون فقد رأوا صحة إسلام الفريقين معا، وأما المعتدلون فقد رأوا أن المخطئ منهما - دون التحديد من هو - مؤمن عاص.

البصرة والكوفة يمثلان اتجاهين في طريق الفكر؛ فالبصرة تعتمد على حجة العقل والكوفة تعتمد على الرواية المنقولة عن السلف، في البصرة نشأ الاعتزال، ونشأت الدراسات الأولى للنحو واللغة. (15)

الخوارج. دعوتهم إلى الخروج على الحاكم إذا أخطأ. مقارنة بما حدث في إنجلترا في القرن السابع عشر، وما نشب من اختلاف في النظرية السياسية بين فيلسوفين، هما: «هوبز» و«لوك»؛ فموقف الخوارج هو نفسه موقف «لوك». تفرق الخوارج في أحزاب فرعية بالغت العشرين يدل على دقة التحليل العقلي؛ إذ من المبدأ الواحد المتفق عليه انبثقت ظلال كثيرة متباينة. من أهم فرق الخوارج جماعة «الأزارقة». قسوة الأزارقة في قتل كل من خالفهم. ومن فرق الخوارج أيضا «النجدات»، وقد برئت النجدات من شناعات الأزارقة. ومن الخوارج كذلك فرقة «الصفرية»، وفيها شيء من الاعتدال بالنسبة للأزارقة. ومنهم فرقة «الإباضية». الخوارج يزدادون تسامحا كلما تقدم معهم الزمن؛ فأشدهم تزمتا هم الأزارقة، ثم اعتدلت الصفرية بعض الشيء، ثم ازدادت النجدات اعتدالا، ثم أمعن الإباضية في الاعتدال.

ناپیژندل شوی مخ