معقول او نا معقول په زموږ فکري میراث کې
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرونه
وأما القارئ المصدق لما زعمه الغزالي في عبارته السالفة، «فقد أثبت أن ها هنا أمورا تسمى خواصا (هل يجوز التنوين في كلمة «خواص»؟ لكن هكذا وردت) لا يدور تصرف العقل حواليها أصلا، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها.»
ولينظر القارئ معي في كيفية إثبات الغزالي لوجود بعض الخواص التي يقضي العقل باستحالة أن تفعل فعلها الذي عرفناه لها، يقول: «فإن وزن دانق من الأفيون سم قاتل؛ لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته، والذي يدعي علم الطبيعة يزعم أن ما يبرد من المركبات إنما يبرد بعنصري الماء والتراب، فهما العنصران الباردان، ومعلوم أن أرطالا من الماء والتراب لا يبلغ تبريدهم (هل نشير إلى أرطال الماء والتراب بالضمير «هم»؟ لكن هكذا وردت) في الباطن إلى هذا الحد، فلو أخبر طبيعي بهذا (أي بأن وزن دانق من الأفيون يجمد العروق لفرط برودته) ولم يجربه، لقال: «هذا محال، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية، والهوائية والنارية لا تزيد بها برودة» ...»
يزعم الغزالي بهذا ما يدعيه بعد ذلك مباشرة من أن «أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني على هذا الجنس؛ فإنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه، وما لم يألفوه قدروا استحالته.»
أود هنا أن أعيد القضية التي يعرضها الغزالي في الأسطر السابقة، على مسمع القارئ بعبارتي؛ ليعجب عجبي من موقفه؛ فهو يقول إن العقل لا يستطيع إدراك كل شيء، وإن ما لا يدركه يظن أنه محال الحدوث، وبرهان ذلك أنك لو قلت له إن وزن دانق من الأفيون يجمد الدم في العروق لفرط برودته لما صدق؛ لأن الأفيون مركب من نار وهواء، وهذان حاران لا تنتج عنهما برودة! ونحن نسأل الغزالي: من ذا الذي قال إذن إن الأفيون يجمد الدم لبرودته؟ أليست هي تجربة الناس بما شاهدوه؟ وهل تقع هذه التجربة في قائمة الإلهامات الروحانية التي تستعصي على العقل، أو هي من صميم عمل العقل عندما يستخرج قوانين الأشياء؟ إننا بالطبع لا ننقد الغزالي من حيث هو يقيم الحجة على خصائص الماء والهواء والتراب والنار، فتلك كانت ثقافة عصره ولا يلام عليها، ولكننا ننكر على أي قارئ معاصر لنا يساير الغزالي في حديث كهذا يسقط كله - بخطئه وصوابه - بسقوط الأساس الذي ينبني عليه في تحليل الطبيعة إلى عناصر أربعة، كما كان الأمر عند القدماء.
وهل صحيح أن «أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني على هذا الجنس؟» أعني أن أكثر براهينهم كان قائما على أساس أن ما لم يألفوه في تجاربهم عدوه مستحيلا؟ لست أظن أن ذلك حكم ينصف تلك الطائفة من قادة الفكر.
على أي حال، لماذا يقول الغزالي هذا؟ إلى أي شيء يمهد بهذه المقدمة؟ إن مرماه هو أن ينتهي إلى نتيجة يريدها، وهي أن من ينكر قدرة الإنسان على الخوارق بقواه الروحانية، فإنما يبني إنكاره على عدم إلفه لها في خبرته، يقول: «ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة، وادعى مدع أنه عند ركود الحواس يعلم الغيب، لأنكره المتصفون بمثل هذه العقول.»
ويعود الغزالي مرة أخرى فيسوق مثلا محسوسا، مما يقول عنه الذين لم يروه إنه مستحيل، مع أنه يحدث فعلا، والمثل هنا هذه المرة أعجب من مثل دانق الأفيون في المثل السابق، وهذه هي عبارته: «ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو بمقدار حبة يوضع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه، فلا يبقي شيئا من البلدة وما فيها، ولا يبقى هو في نفسه؟ لقال: هذا محال وهو من جملة الخرافات، وهذه حالة النار، ينكرها من لم ير النار، إذا سمعها.» فأولا: إن ما يأكل البلدة ليست هي شرارة النار التي هي «بمقدار حبة» على حد تعبير الغزالي، وإنما الذي يأكل البلدة هو أن كل ما فيها يشتعل ويتحول من صورة مادية إلى صورة أخرى، فحجم النار التي تأكل البلدة هو مساو لحجم البلدة نفسها؛ وثانيا: لماذا نقول: «شيء هو بمقدار حبة» لتضفي على الكلام صورة الأحاجي والألغاز؟ لماذا لا تقول: «شرارة نار» ثم تلحق ذلك بوصف علمي موضوعي تحليلي لطبيعة النار؟ فعندئذ لو كان السامع ممن يدركون اللغة العلمية التحليلية لطبائع الأشياء، لما أنكر ذلك حتى ولو لم ير النار من قبل؛ وثالثا: أئذا أنكرت إمكان شيء لكونه لم يقع لي في خبرتي السابقة، كان ذلك دليلا على صدق الزعم بأن فعل الخوارق ممكن للإنسان إذا استعان بوسيلة غير وسيلة العقل؟ أم الأقرب إلى الصواب أن يكون دليلا على أن المنكر لم يستخدم عقله على نحو ما يريده العلم أن يستخدمه؟
ولقد أذهلني أن أجد الغزالي يعقب على مثل النار التي تأكل البلدة وتأكل نفسها، بقوله: «وأكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل.» سألت نفسي دهشا: أي قبيل؟! كم صادف الغزالي في حياته من الناس الذين إذا قيل لهم إن جذوة النار تلقى على الشيء القابل للاحتراق فيحترق، تعجبوا وأحسوا في بواطنهم برفض عقلي لما يسمعون، أيكون هذا - في رأي الغزالي - على نفس المستوى مع قول ينبئنا بأن صورا ينفخ فيه يوم القيامة، فتعاد إلى الحياة ملايين الملايين من بشر ماتوا بكل صور الموت وفي كل أصقاع الأرض وأرجاء السماء؟ هل يرى الغزالي أن القلق العقلي في قبول الخبر هنا كالقلق العقلي في قبول خبر الجذوة المشتعلة التي تحرق قطعة الخشب أو الورق؟ أليس يرى بين الحالتين بعدا شاسعا، هو نفسه البعد بين ما يقبله العقل مستندا إلى شواهد الحواس، وبين ما يستحيل على «العقل» أن يقبله فيحيله إلى الإيمان؟
يستأنف الغزالي حديثه فيقول: «نقول للطبيعي: قد اضطررت إلى أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد ليس على قياس المعقول في الطبيعة، فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما لا يدرك بالحكمة العقلية، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟»
اللهم اهدني إلى رؤية الحق إذا كنت قد ضللت إلى هذا المدى! ذلك أن العجب يشتد بي كلما أمعنت في قراءة النص الغزالي الذي أنقله هنا إلى القارئ جزءا جزءا؛ فالغزالي بلا شك ثاقب النظرة قادر على التحليل قدرة ندر أن رأيت مثلها في مفكر آخر، وهو فوق هذا مؤلف في المنطق حتى كاد المنطق أن يستوعب كل ما كتب إذا استثنيا ما كتبه في الفقه والتصوف، ولكني مع علمي بهذا كله أقرأ هذا الذي يقوله ليثبت به عجز العقل عن رؤية الحقائق، مما يحتاج بالضرورة إلى قوة يستمدها الإنسان من عالم ما فوق العقول، أقول إني أقرأ له هذا الذي يقوله فيشتد عجبي لما ينطوي عليه من تهافت منطقي عجيب! انظر إلى الأسطر القليلة السالف ذكرها، تجده يعقد الموازنة بين خاصة الأفيون في تبريد الجسم وبين خواص الأوضاع الشرعية في مداواة القلوب وتصفيتها! يعقد هذه الموازنة بين الجانبين ليراهما متشابهين في كونهما معا مما تعجز العقول عن إدراكه؛ بالتالي لا يكون ثمة من مناص للإنسان إلا أن ينتظر ما يشبه الوحي النبوي لإدراكه! الأفيون مادة كسائر المواد في الطبيعة، فكيف يحيط الإنسان علما بالطبيعة إلا أن يشاهد كائناتها كيف تتأثر وكيف تؤثر، ثم يسجل عنده ما قد شاهد فإذا هو علمه بالطبيعة، وإذا وسيلته في ذلك هو العقل الاستقرائي الذي يستند في صياغة أحكامه العامة على ما تخبره الحواس؛ فإذا كان الطبيعي الذي يشير إليه الغزالي، لم يكن قد علم من قبل أن للأفيون خاصية التبريد، ثم شهد تلك الخاصية، فالضرورة «العقلية» العلمية تقضي عليه حينئذ أن يضيف هذه المشاهدة الجديدة إلى ما يعلمه عن الطبيعة، فإذا وجد هذه الحقيقة الجديدة تتنافى مع بعض المبادئ العلمية التي كان قد كونها لنفسه عن ظواهر الطبيعة وكائناتها، فلا حيلة له إلا أن يعدل من تلك المبادئ حتى تتسق مع ما يشاهده في دنيا الوقائع، وهو يفعل ذلك بإملاء «العقل» لا برغم العقل؛ فكيف إذن يقيس الغزالي حالة عقلية صرفة بحالة أخرى لا تدخل في مجال العقل من قريب أو بعيد، وأعني الحالة التي تعمل فيها بعض «الأوضاع الشرعية» على مداواة القلوب؟! إن هذه الحالة الثانية إذا كان لا بد فيها من قوة نسلم بها تسليما إيمانيا، فليست الحالة الأولى من هذا القبيل نفسه.
ناپیژندل شوی مخ