معقول او نا معقول په زموږ فکري میراث کې
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرونه
وبعدئذ يأخذ إخوان الصفا في حديث طويل يزيد على ثمانين صفحة عن الموضوع بما يظنونه «علما»، وليس في وسعنا هنا أكثر من أن نسوق قبسات من أقوالهم «العلمية» هذه؛ ليرى القارئ معي كيف أننا بإزاء كتلة ضخمة من «اللامعقول» الذي ينبغي ألا ندخر جهدا في تنقية عصرنا من آثاره وشوائبه. بعد أن يذكروا لنا كم هنالك من الكواكب وكم من الأفلاك والبروج، يقولون إن ثمة سواها أشياء، «منها العقدتان اللتان تسمى إحداهما الرأس والآخر الذنب؛ فالرأس يدل على السعود، والذنب يدل على النحوس، وليسا هما كوكبين ولا جسمين ظاهرين، ولكنهما أمران خفيان، فخفاء ذاتيهما وظهور أفعالهما يدل على أن في العالم نفوسا خفية عن الحس، أفعالها ظاهرة وذاتها خفية، يسمون الروحانيين، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، ويعرف ذلك أصحاب العلوم والسحر والطلسمات» (الرسائل، ج4، ص285). «واعلم يا أخي أن الكواكب ملائكة الله وملوك سمواته، خلقهم لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أرضه، يسوسون عباده، ويحفظون شرائع أنبيائه، بإنفاذ أحكامه على عباده؛ لصلاحهم وحفظ نظامهم على أحسن الحالات.
واعلم يا أخي - أيدك الله - أنه لا يكاد يعرف كيفيات تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في جميع ما في هذا العالم من الأجسام والأرواح والنفوس إلا الراسخون في العلم، البالغون في المعارف، والناظرون في العلوم الإلهية، المؤيدون بتأييد الله وإلهامه لهم» (ص285).
تلك هي النغمة التي كتب بها «الإخوان» عن السحر وما هو إلى السحر بسبيل، وهم يستنكرون كل من ينكر حقيقته عن نية صادقة أو عن كذب وادعاء، استنادا إلى أنه كان موضع القبول من فلاسفة أقدمين من أصحاب المكانات العالية كأفلاطون، يقولون: «... فلا بد مما يورد على هؤلاء المنكرين لهذا العلم، والمكذبين لمن يدعي صحته، من الشهادات: بعض ما ذكر المتقدمون في كتبهم وسطروه من أخبارهم، ويحكى من ذلك ما كان واضح الشهرة لا يخفى موضعه على طالبيه، ولا يكذب قائله؛ حتى لا يجد السفهاء إلى تكذيبنا سبيلا، فنقول: إن أفلاطون الفيلسوف قد ذكر في المقالة الثانية من كتاب السياسة ... إلخ.» ثم يروي لنا المؤلفون قصة خاتم ذي قوة سحرية، أوردها أفلاطون في تلك المقالة المذكورة (ص287-288)، وبعد أن يفرغ الرواة من الحكاية عن أفلاطون، يتساءلون في استنكار: هل يمكن لرجل له ما لأفلاطون من منزلة رفيعة أن يقول عن السحر ما قاله كذبا وزورا؟! «وإنما السبب الذي يدعو هؤلاء الأحداث إلى التكذيب والإنكار لمثل هذا، هو ما فيهم من الكسل وقلة الرغبة في التعلم والأنفة وقلة الحياء!» (ص288).
وبالطبع لم يفت «الإخوان» أن يستشهدوا على حقيقة السحر وقوة فعله بما قد أوردوه من آيات قرآنية كثيرة، لو قرئت من السطح ظن قارئها أنها حجة لهم، وربما كان لها من التأويل ما يخرج منها المعنى الصحيح الذي يتفق مع نظرة العقل في فهم الأحداث وتعليلها، ثم عقبوا على شواهد القرآن بأخرى من التوراة «مما يعتبره ويقر بصحته أمتان من الأمم، وهما اليهود والنصارى جميعا، والتوراة موجودة بأيدي اليهود والنصارى باللغة العبرانية وباللغة السريانية، وباللغة العربية، لا خلاف بينهم فيها» (ص291). وكذلك وردت الشواهد على صدق السحرة في دعواهم «في كتب أخبار ملوك بني إسرائيل التي تجري عند اليهود مجرى التوراة ...» (ص293). وهكذا تعددت المصادر التي تؤيد فعل السحر والسحرة، «فمنها ما هو من جهة الفلاسفة، ومنها ما هو من جهة الأنبياء وكتب الشرائع، ومنها ما هو مذكور في القرآن» (ص294). «أفترى هذا كله كذبا لا أصل له، وسخفا وحماقة ممن يذكره عند هؤلاء المتعجبين المنكرين بأنفسهم، المكذبين بما يسمونه بجهلهم، تكبرا منهم وتيها وصلفا، لقلة عقولهم وقصر علومهم وقصورهم عن نيل العلوم الحقيقية، فيجدون الإنكار والتكذيب أخف عليهم» (ص294-295).
إن همنا في هذه الصفحات هو أن نبين للقارئ كيف غلب «اللاعقل» على أسلافنا في بعض المواقف؛ مما يستوجب انصرافنا عن تراثهم في هذا الجانب اللاعقلي، ومهما يكن من أمر السحر على حقيقته، فها أنت ذا ترى إخوان الصفا يركنون - في تأييدهم لصدق تأثيره - أول ما يركنون وآخر ما يركنون على ما «سمعوه» من أخبار الأولين، وما «نقلوه» عن أسفار الأقدمين، والعجب بعد ذلك أن تراهم ينعتون المنكرين ب «قلة العقل»، في الوقت الذي نرى هؤلاء المنكرين لا يعتمدون إلا على منطق العقل وحده، وأما «الإخوان» فيأخذون ما يأخذونه في هذا الباب سمعا ونقلا، ولا «عقل» هناك.
ولعل المؤلفين لتلك الرسائل قد أحسوا بضرورة التحديد للمعنى المقصود بكلمة «سحر» بعد أن أفاضوا القول فيه ، وقبل أن يمضوا في حديث مطول عن طرائق فعله وتأثيره، فقالوا: «إن السحر ينصرف في اللغة العربية على معان كثيرة، قد ذكرها أصحاب اللغة العارفون بها وأصحاب التفسير لها، ونريد أن نذكر منها ما يليق بكتابنا هذا ليكون دليلا على ما نورده من القول في هذا الفن، فمن ذلك أن السحر في اللغة العربية هو البيان والكشف عن حقيقة الشيء، ومنه الإخبار بما يكون قبل كونه، والاستدلال بعلم النجوم وموجبات أحكام الفلك، وكذلك الكهانة والزجر والفأل، فإن كل ذلك إنما يوصل إليه ويقدر عليه بعلم النجوم وموجبات الأحكام الفلكية والقضايا السماوية ... وهو ينقسم أقساما كثيرة ويتنوع أنواعا شتى ... منه سحر عملي ومنه سحر علمي، ومنه حق ومنه باطل، ومنه ما رميت به الأنبياء ووسمت به الحكماء، ومنه ما يختص بعلمه النساء ...» (ص312-313) - وإنه ليكفينا أن تكون لكلمة «سحر» كل هذه المعاني، لنقول إنه لا يجوز لكاتب أن يحتج له بآيات قرآنية أو بمأثورات من أقوال الأقدمين، قبل أن نعرف أولا لأي معنى من هذه المعاني تكون الحجة.
69
في أحاديث إخوان الصفا مزيج عجيب بين حقائق «العلم» وأخبار «السحر»، كأنهما طرفان متعادلان يتقسمان الميدان بشرعية واحدة! فمثلا قد تراهم يقولون: إن للعقاقير والأدوية خواص معينة، هي التي تجعلها تصلح لما تصلح له، وتؤذي بما تؤذي، ثم يلحقون بهذا القول كلاما شبيها به عن «الرقى والعوذ والنشر» (النشر: جمع النشرة، وهي رقية يعالج بها المجنون والمريض)، وهم في ذلك يقولون: «إن السحر يؤثر في أنفس الآدميين وأجسادهم ... وأما هذه الرقى والنشر والعزائم وما يشاكلها إنما هي آثار لطيفة روحانية من النفس الناطقة تؤثر في النفس البهيمية وفي الحيوان» (ص309). ويستطردون في القول ليوضحوا كيف تفعل نفس الساحر في نفس المسحور، مثل ما تفعله النار فيما يجاورها، فإذا كان ما ينبعث من النار شرورا، فما ينبعث من النفس المؤثرة شيء روحاني لطيف، وقد يبلغ التأثير حد أن يصرع المنظور إليه أو أن يشج رأسه، وقد ترى «الراقي يستعين على الرقية بالنفث والنفخ وغير ذلك؛ لأن النفث والنفخ هما من جوهر هذه البهيمة» (ص311).
وينتقلون من الحديث العام إلى التطبيقات الخاصة، فيأخذون في ذكر المواقف الكثيرة التي يستعان فيها بالسحر والتنجيم وما إليهما على كشف الغيب المجهول، لا فرق في ذلك بين جليل الأمور وضئيلها، وسنذكر لك أمثلة متناثرة مما يقولونه في هذا الصدد، لتدرك كيف شغلت جماعة رفيعة الثقافة في عصرها باللاعلم على أنه من العلم واللاعقل بحسبانه عقلا (والجماعة هي إخوان الصفا، وعصرها هو القرن العاشر الميلادي):
فإذا سألك سائل عن خبر أو ضمير أو خبيء يريد منك الإخبار به، فاحكم على ذلك مستعينا بالساعة التي يكون فيها نجم معين، فإذا كان سؤال السائل أن تعين له ما قد أخفاه في يده، ووجدت أن الساعة هي أول ساعة الزهرة، فاعلم أن ما قد أخفاه في يده شيء أبيض حسن اللون طيب الرائحة مما يدخل النار ويخرج كالفضة؛ وإن جاءك في آخر ساعة الزهرة، فاعلم أنه شيء ضعيف لين مما ينسب إلى الماء؛ وإن جاءك في أول ساعة الشمس فهو صغير من نبات الأرض؛ وإن جاءك في وسط الساعة فهو ذهب أو حلي من ذهب مدور أو دينار؛ وإن جاءك في آخر الساعة فهو شيء رقيق ناري شبه القوارير. وعلى هذا المنوال يفصلون القول عن الطريقة التي تكشف بها حقيقة الشيء المخبوء ناظرا إلى الساعة التي يكون فيها القمر، والمريخ، وعطارد، والمشتري، وزحل! وما يتبع في معرفة الشيء الخبيء في يد السائل يتبع في معرفة ما يضمره إنسان في نفسه ولو لم يفصح عنه.
ناپیژندل شوی مخ