معقول او نا معقول په زموږ فکري میراث کې
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
ژانرونه
ولقد تناول ابن تيمية كذلك (في المصدر السابق، ص126-127) ما بناه ابن عربي على الحديث القائل: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين.» وهو - أي النتيجة التي استدلها ابن عربي من هذا الحديث - أن النبي محمدا عليه السلام كان موجودا من الأزل، بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأنبياء - في رأي ابن عربي - كان وليا وآدم بين الماء والطين. فيعلق ابن تيمية على هذا بقوله: «هذا كذب واضح، مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد، فإن الله علم الأشياء وقدرها قبل أن يكونها، ولا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته (أي حقيقة محمد عليه السلام) موجودة قبل أن يخلق إلا كما كانت حقيقة غيره؛ بمعنى أن الله علمها وقدرها، لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورا أعظم من غيره.»
بل ماذا تقول في اتهام ابن تيمية للمتصوفة الذين قالوا ما قالوه مما أسلفنا نموذجا منه، بالإلحاد، لا بمجرد الخطأ في الرأي! فمن قوله في ذلك عنهم: «كان الملاحدة من المتصوفة، كابن عربي وابن سبعين وغيرهما، قد سلكوا مسلك ملاحدة الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا» (من «الرد على المنطقيين» لابن تيمية، ص486).
أفيكون بدعا منا بعد ذلك أن نكتفي بالقول عن مثل هذه المشكلات وما يقال فيها بأنه يندرج تحت «اللاعقل»، فهو كله من البداية وجدانات كالتي تجيش بها صدور الشعراء، قد تلذ قراءتها، أما أن نطرحها أمام العقل ومنطقه فلا؛ وإذا كان أمرها كذلك فلا يجوز أن تكون هي وأمثالها جسر العبور بيننا وبين أسلافنا.
67
إنني إذ أقول ما أقوله، فإنما أحتكم إلى العقل، وللعقل في أحكامه حدود معلومة، ولعل أوضح هذه الحدود أن يكون المحكوم بعقله في حالة من «الوعي» الكامل بما يؤديه، فأما أن يقال عن رجل إنه عن طريق «اللاوعي» يستطيع أن يكشف عن الحق فيعلمه، فذلك قول ينقض بعضه بعضا، نعم إن من حقك أن تقول: «ولماذا أشقى بالوعي إذا كانت حالات اللاوعي تسعدني بوجدانها؟» من حقك أن تقول هذا، ولا حرج عليك أن تنعم بما تراه مصدرا لنعيمك، لكن الذي ليس من حقك أن تدعي بلوغ «العلم» عن غير طريقه، اللهم إلا أن تعطي كلمة «العلم» معنى ليس هو ما نفهمه منها اليوم، وذلك بالفعل هو موقف المتصوفة حين يقولون إنهم كشفوا عن «الحق» بحالات هي أقرب إلى حالات الغيبوبة منها إلى حالات الصحو الواعية، وسأنقل لك أسطرا من الغزالي يصف لنا فيها ما يظنه طريقا لبلوغ «الحق»: «... فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا، والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى؛ فمن كان لله كان الله له، وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والطن وعن العالم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود الشيء وعدمه، ثم يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى؛ فلا يزال - بعد جلوسه في الخلوة - قائلا بلسانه: الله! الله! على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان، ويصادف قلبا مواظبا على الذكر، ثم يواظب عليه إلى أن يمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمة مجردا في قلبه، حاضرا فيه كأنه لازم له لا يفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد، واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس، وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرضا لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطرق.
وعند ذلك - إذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، فلم تجاذبه شهواته، ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا - تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يلبث، ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفا، وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد يقتصر على فن واحد، ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم، وأخلاقهم، وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط» (راجع كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، ج3، ص19-20).
الحق أني لأسائل نفسي دائما كلما قرأت أقوالا كهذه لكبار المتصوفة: في أية حالة يا ترى كتبوا هذا الذي كتبوه، ثم لماذا كتبوه؟ فهذا هو الغزالي - على عظيم قدره مفكرا وفقيها ومتصوفا - يعلنها صريحة بأن الأمر ينكشف لمن ينكشف له «لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا»، ويوصي من أراد بلوغ الحق أن يقطع همته عن «العالم»، وأن يضع نفسه في حالة «يستوي فيها وجود الشيء وعدمه»، وعليه أن يجاهد نفسه حتى «لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى»؛ وعندئذ فقط يكون قد هيأ الظروف من جانبه، ولا يبقى عليه إلا الانتظار لرحمة الله ... إلخ، أقول: ترى هل تمرس الغزالي نفسه بمثل هذه الحالة التي يصفها؟ فإن كان قد فعل، فلا بد أن يكون - كما وصف - قد بتر علائقه بالعالم، واستوى عنده وجود الأشياء وعدمها، ولم يعد يخطر بباله شيء سوى الله ... فمتى - إذن - ولماذا، وكيف كتب هذا الذي كتب؟ أليست الكتابة فيها ورق ومداد وقلم وألفاظ وانشغال بالناس الذين يأمل أن يقرءوا كتابته؟ أيكون قد كتب هذا بعد أن أفاق من غيبوبة استغراقه؟ لكنه إذا أفاق ولم تعد له إلا ذكرى ما حدث له في لحظة ماضية، أفلا يكون عندئذ في حالة جديدة مما يحسن الخروج منها بأسرع ما يستطيع ليعود إلى لحظة استغراقه؟ ثم لماذا لا يذكر لنا المتصوفة في حالات صحوهم ووعيهم تفصيلات ما قد رأوه وعلموه ساعات وجدهم، أم إنه شيء يحس ولا يوصف، فما فائدة هذا الذي يكتبونه لمن يوجهون إليهم القول؟ ... مرة أخرى أقول: إن من حق من شاء أن يستمتع بقراءة هذا الصنف من الكلام - وهو في تراثنا كثير - لكن ليعلم أن الدنيا لن تتقدم به قيد إصبع واحدة. •••
وإن المتصوفة أنفسهم ليعلمون أن حالاتهم الوجدانية هذه أمور خاصة بأشخاصهم (وإن كنت لا أدري: لماذا - إذن - يؤلفون الكتب للناس؟) وهم يعلمون أن دنيا الناس لن تتقدم قيد إصبع واحدة بكل ما كتبوه، والأرجح أنها ستتأخر بمقدار ما فيها من أفراد لا يعنون بشئونها، ويستوي في أعينهم وجود الأشياء وعدمها؛ ولذلك تراهم يجعلون «الزهد» في الدنيا شرطا من شروطهم، والزاهدون - بحكم تعريف الكلمة نفسها - قد ينفعون أنفسهم، لكنهم لا ينفعون حضارة الناس في شيء.
يقول الحارث المكي في كتابه «قوت القلوب في معاملة المحبوب»: «الزهد يكون بمعنيين: إن كان الشيء موجودا فالزهد فيه إخراجه وخروج القلب منه، ولا يصح الزهد فيه مع تبقيته للنفس؛ لأن ذلك دليل الرغبة فيه، وهذا زهد الأغنياء، وإن لم يكن موجودا؛ فالزهد هو الرضا بالفقر، وهذا هو زهد الفقراء» (ص503). «حقيقة الفقير أن يكون مغتبطا بفقره، خائفا أن يسلب الفقر، كما يكون الغني مغتبطا بغناه يخاف الفقر» (ص506). «قوت الزهد الذي لا بد منه، وبه تظهر صفة الزاهد وينفصل به عن الراغب هو ألا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس، ولا يحزن على مفقود من ذلك، وأن يأخذ الحاجة من كل شيء عند الحاجة إلى الشيء، ولا يتناول عند الحاجة إلا سد الفاقة، ولا يطلب الشيء قبل الحاجة» (ص507). «خالص الزهد إخراج الموجود من القلب، ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد» (ص507). «القناعة من باب الزهد، والرضا باليسير من الأشياء حال من الزهد، والتقلل في الأشياء مفتاح الزهد» (ص508).
ويروي صاحب «قوت القلوب» عن إبراهيم بن أدهم قوله: «قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية، فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب: الفرح بالموجود، والحزن على المفقود، والسرور بالمدح. فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل» (ص508).
ناپیژندل شوی مخ