فجلس المتصرف وأخذت شفتاه تتحركان بكلام لم أسمعه، ثم رفع رأسه إلي وقال: سامحك الله. - بل أثابني الله.
ثم دعا أحد الكتاب وأسر في أذنه كلاما لم أسمعه، فغاب الكاتب وعاد وفي يده ورقة أخذها المتصرف ووقع تحتها بخاتمه وقال: أرسل هذا في مثل لمح البصر. فلما ولى الرجل نهضت واقفا وأردت الخروج، فقال لي المتصرف: إلى أين تريد؟ - إلى بيتي. - لا سبيل إلى ذلك الآن. - وما يمنعني عن الذهاب ولست مسجونا ولا محكوما علي بحكم؟ - إذا حاولت الخروج قسرا منعتك الجنود، ولا بد لك من الانتظار. - وماذا تريد أن أنتظر. - إرادة مولانا السلطان الأعظم.
فأيقنت بعد ذا أني وقعت في الشراك، فجلست، وطاف علينا الخدم بالقهوة والسيكارات، واستولى علينا الصمت؛ مجلس تعالاه السكون وأظلته دهشة الظلم ووحشة الويل، كالقبر لولا مصابيح تسطع منها الأنوار وأنفاس تتردد بين الجوانح والصدور، ما يعلق الطرف بشيء إلا ورأى فيه صورة الخطب. فلما دقت الساعة دقتها التاسعة بالحساب الشرقي بدا في الباب شخص مشى نحوه المتصرف، ثم غاب كلاهما وبقيت أنا وحدي في تلك الغرفة، فما راعني إلا قوميسير المركز وهو رجل اسمه حسين أفندي يتبعه نحو الستة من أشداء الرجال، فتقدم الرجل نحوي وقال: أرجو أن تتبعني. - إلى أين؟ - إلى مكان ضيافتك، أنت في هذه الليلة ضيفنا الكريم. - أنا لا أريد هذه الضيافة، وأحب أن أرجع إلى بيتي. - ترجع إلى البيت غدا صباحا. - ولم لا أرجع الآن؟ - لأن الساعة قبيل الصبح، ولا يجوز ذهابك في مثل هذا الوقت؛ إذ لا نأمن عليك من اعتداء معتد. - وأين المتصرف؟ - قد ذهب إلى داره. - وددت لو ذهب أحد منكم ليخبر أهلي بمكاني. - لك ما تريد.
وبعد هذه المحادثة نهضت واقفا وقلت للقوميسير أني رهين الإشارة ، فمشى أمامي وتبعنا أعوانه. وما زال يطوف بي حتى أنزلني إلى غرفة «المعاينة الطبية»، فأدخلت فيها إذ لم يكن هناك موضع هو أشكل بي منها، فلما استقر بي الجلوس جاءني شرطي فقال: إن المتصرف رآك تلعب بقلم من الرصاص كان في يدك فأرسلني لآخذه منك. - قلتم إن المتصرف ذهب إلى داره، فكيف يطلب الآن قلمي؟
فلم يرد الرجل جوابا، وأخرجت له القلم فدفعته إليه وذهب عني بسلام. وإذ كان الموسم موسم الشتاء وكان البرد شديدا ولم يكن بالغرفة التي أدخلتها كانون ولا نار لتكسر سبرات القر، جعلت المعطف (البلطو) غطائي واعتمدت على ساعدي فنمت.
فلما كان الغد انتبهت من نومي فرأيت في الغرفة رجلين، أحدهما قوميسير وثانيهما شرطي، فلما رأيا انتباهي أقبل علي الأول منهما وسألني أصائم أنا أم مفطر؟ قلت: أفي السجن تريدون أن يصوم الناس؟! أنا مفطر ثم مفطر ثم مفطر. فقال: هل لك في قهوة وسيكارة؟ قلت: قهوات وسيكارات. فأشار القوميسير إلى الشرطي فبادر ثم عاد ومعه القهوة والسيكارات، ولما تعالى الضحى دخل الغرفة جماعة من الشرطة، فتقدم نحوي رجل منهم مسلما وأخذ يعاتبني على ما كان مني في الليل، قال: لقد عذبت نفسك الليلة وعذبتنا معك. - وكيف ذلك؟ - ما أسرع نسيانك، ألم تجعل المتصرفية كلها مشتغلة بك، وضربت المتصرف وقلت في مولانا السلطان كلاما لا يليق بمثلك أن يقوله، وما صدقنا أن رأيناك نزلت إلى هذه الغرفة ونمت.
فرد أحد الحاضرين على معاتبي منكرا وقال: متى تكلم البك في مولانا السلطان كلاما كما زعمت؟! إني كنت حاضرا فلم أسمع شيئا مما ذكرت. فأجابه ثالث بأن قد سمعني أشتم السلطان. فلما رأيت تمادي الجدال بين هؤلاء الأنذال التفت إلى معاتبي وقلت: كان ما كان وأنا قلت كل ما خطر ببالي وصنعت كل ما قدرت أن أصنع، وها أنا ذا اليوم رهين السجن، فماذا تريدون مني؟ فلما سمعوا مني هذا الكلام خرجوا من عندي وبقيت مع صاحبي القوميسير والشرطي، وكان القوميسير من أهل «بوسنة سراي»، ذا همة وجد ، يأنس المرء إلى محادثته ويعجب بأدبه وحسن أخلاقه، فقلت في نفسي: يا سبحان الله! كيف رمت الأقدار بمثل هذا الرجل الشهم في سلك البوليس؟ ثم علمت أن الحاجة اضطرته، وإنها لتضطر إلى ركوب كل مركب خشن. ولقد قال لي: إن نوبتنا في الجلوس عندك ست ساعات، وسيأتيك بعدنا قوميسير وشرطي فيلبثان كذلك، ثم يأتي آخران إلى أن يمن الله عليك بالخروج قريبا. على أنني أرى بك ضجرا ويأسا ولا أحب أن تستسلم إليهما، الرجال يعرفون عند اشتداد اللزبات، وسأطلب الإذن في إحضار أوراق اللعب لنلعب معك ونعينك على ترويح نفسك من أكدارك، فشكرت للرجل ظرفه ولم أخالفه في نصحه كثيرا.
ولا يسألن القارئ الكريم عن حال من بات ينتظر إيابي في البيت، فذلك يطول شرحه ولا يستطاع وصفه، وكنت سألت القوميسير أن ينفذ أحد أعوانه ليعلم أهلي بمكاني، وكان وعدني بذلك ولكنه لم يف بوعده. ولما أصبحت والدتي وامرأتي ولم أعد إليهما أوجستا خيفة وأيقنتا أن أمرا أصابني، فتوجهتا إلى بيت الجنرال أحمد جلال الدين وسألتاه أن يستعلم لهما من القصر، ثم أخذتا تقصدان منازل الكبراء فلم تقفا على خبري، فذهبتا إلى «غلطة سراي»، وجعلتا تسألان عني كل من لقيتاه من رجال الشرطة حتى دلهما أحدهم على مكاني وأخبرهم خبري، وقد كان ممن شهدوا واقعتي مع المتصرف، فجاءتا إلى المتصرفية وطلبتا أن ترياني فلم يؤذن لهما بذلك، وبقيت في السجن أياما لا أرى أحدا من أهل بيتي ولا أسمع عنهم خبرا، أقضي أنهاري ماشيا في الغرفة أو مضطجعا على المقعد أدخن السيكارات وأشرب القهوة ولا أذوق طعاما، وفي يوم العيد؛ عيد الفطر - وقد وقع في ثالث أيامي بالسجن - جاءني رئيس القوميسيرية من قبل المتصرف مهنئا لي بالعيد، فغاظني ذلك غيظا شديدا، فقلت له، لا هنأه الله: أيرى الغبي أني في قصر «طولمة بغجة» مقيم بين أبهة الملك وعز القدرة؟! إن سره اليوم أني مسجون فربما تأتي الأيام بما يطيل إساءته، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوان النقمة
إن في دول الظلم لأعوانا يسعدون في إباناتها، يؤتون الحكم على أعداء الاستبداد، يستحلون أموالهم وأرواحهم، حتى إذا استمرءوا الغواية وزين لهم الغرور أن يضيموهم استضعافا وأن يحقروهم استخفافا؛ وقفت النجدة - نجدة الأحرار - في وجوههم، وأهوت عليهم يد اليأس بسيف من سيوفه القاطعة، لا يصيب منهم عضوا إلا براه بري القلم. أولئك الطغام خلقوا بغير قلوب فلا يرحمون، ونشئوا بوجوه لا دماء فيها فلا يستحون، ما تفردوا بفتى حر إلا ساموه عذابا، فسخروا من عقله، وضحكوا لبكائه، فلا يزالون به حتى يواروا شمائله ويدفنوا معه فضائله. وقد كان عبد الحميد يبغض أحرار الأمة ويطاردهم؛ لأنهم أقاموا له بالمرصاد فأحصوا سيئاته في كتبهم وعيروه بمثالبه في منشورات فصولهم. أما أعوانه فلم يبغضوا الأحرار حبا في ذاته، بل رغبا في ذهبه ورهبا لبطشه. ثم لم تزل تلك العداوات تنمو في صدورهم حتى انقلبت غرائز، فبات عدوانهم للأحرار طبعا فيهم. وإني لذاكر في هذا الفصل بعض ما بقي بالخاطر من بغي هؤلاء القوم لتكون حجة عليهم خالدة خلود الأبد، وليتعظ بها سواهم.
ناپیژندل شوی مخ