مکیاولي: مخکتنه لنډه
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
عند هذه النقطة الحاسمة يبدأ مكيافيللي في الخروج بحسم من حدود رؤيته السياسية الواردة في كتاب «الأمير»، ويقرر أن مفتاح حل هذه المشكلة هو التأكد من أن المواطنين «مهيئون جيدا»؛ أي منظمون على نحو يتيح حملهم على اكتساب «القوة» والاحتفاظ بحرياتهم. هذا الحل مطروح مباشرة في بداية الفصل الافتتاحي في «المطارحة» الأولى، فإذا أردنا أن نفهم كيف تسنى «الاحتفاظ بقدر كبير من «القوة»» في روما «طوال قرون عديدة»، فإن ما نحن بحاجة لأن نحقق فيه هو «كيف كان يجري تنظيم روما» (192). الفصل التالي يكرر نفس النقطة، فلكي ندرك كيف نجحت مدينة روما في التوصل إلى «الطريق المباشرة» التي أوصلتها «إلى الغاية المطلقة والحقيقية»، علينا قبل كل شيء أن ندرس «تنظيم» مؤسساتها وترتيباتها الدستورية وأساليب ضبط مواطنيها وتنظيمهم (196).
والمسألة الأوضح التي يتطلب منا هذا الأمر أن نتناولها، وفقا لمكيافيللي، هي توضيح المؤسسات التي تحتاج أي مدينة تطويرها كي تتجنب نمو الفساد في شئونها «الداخلية» التي يقصد بها ترتيباتها السياسية والدستورية (195، 295). ومن ثم فإنه يخصص الجزء الأكبر من هذه المطارحة الأولى للنظر في هذا الموضوع، مستمدا أمثلته الرئيسية من تاريخ روما المبكر، ومبرزا دائما «إلى أي مدى جرى تكييف مؤسسات تلك المدينة على نحو يجعلها عظيمة» (271).
ويخص مكيافيللي بالذكر طريقتين لازمتين لتنظيم شئون الوطن على نحو يبث صفة «القوة» في جسد عامة المواطنين؛ فيبدأ - في الفصول من الحادي عشر إلى الخامس عشر - بالذهاب إلى أن من أكثر المؤسسات أهمية لأي مدينة تلك المعنية بتدعيم العبادة الدينية وضمان «استخدامها على نحو جيد» (234)، بل إنه يعلن أيضا أن «الحرص على التعليم الديني» أمر بالغ الأهمية إلى حد أنه يعمل في حد ذاته على تحقيق «العظمة للجمهوريات» (225). على عكس ذلك، هو يعتقد أن «المرء لا يمكن أن يلحظ مؤشرا أوضح» يدل على فساد البلاد وخرابها من «أن يرى العبادة الإلهية لا تحظى بالتقدير الكافي» (226).
وقد أدرك الرومان تماما كيفية الاستفادة من الدين في تعزيز صالح جمهوريتهم ورفاهيتها. فالملك نوما - الذي خلف رومولوس مباشرة - على وجه الخصوص، أدرك أن إرساء عقيدة مدنية «ضروري كل الضرورة إذا كان يرغب في الحفاظ على تحضر المجتمع» (224). في المقابل، فشل حكام إيطاليا المعاصرون فشلا ذريعا في إدراك أهمية هذه النقطة. صحيح أن مدينة روما لا تزال المركز الرمزي للديانة المسيحية، لكن المفارقة التي تبعث على السخرية هي أن ما ضربته الكنيسة الرومانية من «نموذج سيئ»، جعل «هذه الأرض تخسر كل قدر من التقوى والتدين» (228). ونتيجة هذه الفضيحة هي أن الإيطاليين، من خلال كونهم أقل الشعوب تدينا في أوروبا، صاروا أشد الشعوب فسادا. وكنتيجة مباشرة لذلك، فإنهم فقدوا حريتهم، ونسوا كيفية الدفاع عن أنفسهم، ولم يسمحوا فقط بأن تصبح بلادهم «فريسة للبرابرة الأقوياء، بل فريسة أيضا لكل من يغير عليها» (229).
والسر المعروف لكل قدماء الرومان - والمنسي في العالم المعاصر - هو أن المؤسسات الدينية يمكن أن تلعب دورا يشبه دور الأفراد البارزين في الإسهام في تعزيز العظمة المدنية، فالدين يمكن استخدامه لإلهام عامة الناس - وإذا لزم الأمر ترهيبهم - على نحو يحثهم على تفضيل صالح مجتمعهم على كل المصالح الأخرى. ويقدم مكيافيللي إفادته الرئيسية عن كيفية تشجيع الرومان هذا الشكل من أشكال الوطنية في مناقشته موضوع قراءة الطالع؛ فقد كان القادة الرومان قبل الذهاب إلى المعركة دائما ما يحرصون على أن يعلنوا أن طالعهم حسن، وكان هذا يحفز قواتهم للقتال بإيمان واثق بأنهم على يقين من النصر، وهي ثقة كانت تجعلهم يتصرفون على نحو يحمل من «القوة» ما يجعلهم يحققون النصر على نحو شبه دائم (233). لكن مكيافيللي بطبيعته أكثر إعجابا بطريقة استخدام الرومان دينهم لإثارة الرعب في جسد الشعب، ومن ثم حثهم على التصرف بقدر من «القوة» ما كانوا ليكتسبوه لولا ذلك. وهو يقدم أكثر الأمثلة دراماتيكية على ذلك في الفصل الحادي عشر؛ إذ يقول «بعد أن هزم حنبعل الرومان في معركة كاناي، تجمع عدد كبير من المواطنين الذين اتفقوا، بعد أن ملأهم اليأس من وطنهم، على الرحيل من إيطاليا»، وحينما سمع سكيبيو بهذا، التقى بهم «بسيفه المشهر في يده»، وأجبرهم على أن يقسموا اليمين الرسمية التي تلزمهم الدفاع عن أرضهم. كان تأثير ذلك إجبارهم على اكتساب «القوة»؛ فرغم أن «حبهم بلادهم وقوانينها» لم يقنعهم بالبقاء في إيطاليا، كان خوفهم من الوقوع في الكفر إذا ما حنثوا بقسمهم هو ما حقق هدف بقائهم في إيطاليا (224).
إن الفكرة التي تذهب إلى أن المجتمع الذي يخشى الرب يحصد بطبيعة الحال ثواب المجد المدني، كانت فكرة مألوفة بالنسبة لمعاصري مكيافيللي. وكما يشير هو نفسه، كان هذا هو الوعد الذي قامت عليه حملة سافونارولا في فلورنسا خلال تسعينيات القرن الخامس عشر، والتي أقنع من خلالها الفلورنسيين «بأنه تحدث إلى الرب»، وأن رسالة الرب إلى المدينة أنه سيعيدها إلى عظمتها السابقة ما إن تثوب إلى ما كانت عليه من تقوى (226). لكن وجهات نظر مكيافيللي نفسه عن قيمة الدين تدفعه للإقلاع عن تعامله التقليدي مع هذا الموضوع في ملمحين أساسيين؛ فهو أولا يختلف عن سافونارولا من حيث مبرراته التي تقف وراء الرغبة في الحفاظ على الأساس الديني للحياة السياسية. فهو ليس مهتما اهتماما يذكر بمسألة الحقيقة الدينية، وإنما مهتم فقط بالدور الذي تلعبه المشاعر الدينية «في إلهام الناس، وفي جعلهم أخيارا، وفي جعل الأشرار يشعرون بالخزي»، وهو يحكم على قيمة مختلف الديانات مستندا كليا إلى قدرة كل منها على تعزيز التأثيرات النافعة (224). لذا فهو لا يخلص فقط إلى أن زعماء أي مجتمع عليهم واجب «قبول وتمجيد» أي شيء من شأنه أن «يدعم صالح الدين»، بل يصر أيضا على أنهم يجب أن يفعلوا ذلك دوما، «حتى إن كانوا يعتقدون أن ما يفعلونه ليس صوابا» (227).
المنحى الآخر الذي ينحوه مكيافيللي بعيدا عن التقليدية مرتبط بهذا النهج البراجماتي؛ فهو يعلن - وفقا لهذه المعايير - أن ديانة الرومان القديمة أفضل بكثير من الديانة المسيحية؛ فليس هناك ما يبرر عدم تفسير المسيحية «بما يتلاءم مع «القوة»» وعدم استخدامها في «تعزيز» المجتمعات المسيحية و«الدفاع عنها»، لكنها في الواقع فسرت على نحو يوهن الصفات الضرورية للحياة المدنية الحرة المفعمة بالقوة؛ فقد «مجدت الأشخاص البسطاء المتصوفين»، «ووضعت على رأس صالح الأعمال التواضع والخضوع واحتقار الأمور البشرية»، وألغت قيمة «عظمة العقل، وقوة الجسد»، أو أي من السمات الأخرى للمواطنين «الأقوياء». ومن خلال فرض هذه الصورة الأخروية للتميز البشري، لم تعمل فقط على تقويض المجد المدني، بل ساعدت أيضا على التسبب في اضمحلال دول عظيمة وسقوطها عن طريق إفساد الحياة المجتمعية فيها. وهكذا يخلص مكيافيللي - في لهجة ساخرة تليق بالمؤرخ جيبون - إلى أن الثمن الذي دفعناه مقابل حقيقة أن المسيحية «ترينا الحقيقة والطريق القويمة»، هو أنها «جعلت العالم ضعيفا وحولته إلى فريسة للأشرار» (331).
بقية «المطارحة» الأولى مكرسة في أغلبها للادعاء بأن هناك وسيلة أخرى أكثر فعالية لحمل الناس على اكتساب «القوة»: باستخدام سلطات القانون الجبرية على نحو يفرض عليهم إعلاء مصالح مجتمعهم فوق كل المصالح الفردية ، وهذه النقطة موضحة في البداية بعبارات عامة في فصول الكتاب الافتتاحية؛ حيث يقال إن كل الأمثلة الرائعة على القوة المدنية «تعزى إلى التعليم الجيد»، الذي يعزى بدوره إلى «قوانين جيدة» (203). وإذا أردنا أن نعرف كيف نجحت بعض المدن في الحفاظ على «قوتها» على مدى فترات طويلة على نحو استثنائي، فستكون الإجابة الأساسية في كل حالة أن «القوانين سبب نجاحها» (201). الوضع المحوري لهذا الجدل في نقاش مكيافيللي العام يتبين جليا في بداية «المطارحة» الثالثة، حيث يقول إنه إذا أرادت مدينة أن «تعود لحياة جديدة» وتتقدم على الطريق الموصلة إلى المجد، فهذا لا يمكن أن يتحقق إلا «عن طريق «قوة» رجل ما أو عن طريق «قوة» القانون» (419-420).
بناء على هذا الاعتقاد، يمكننا أن نرى لماذا يمنح مكيافيللي تلك الأهمية البالغة للآباء المؤسسين للمدن؛ فهم في مكانة فريدة تجعلهم بمنزلة المشرعين، ومن ثم يزودون مجتمعاتهم من البداية بأفضل وسيلة لضمان تعزيز «القوة» والتغلب على الفساد. ويقال إن أروع الأمثلة على ذلك تتمثل في المشرع ليكرجوس، المؤسس الأول لمدينة إسبرطة؛ فقد سن مجموعة قوانين على درجة من الإحكام جعلت المدينة تتمكن من «العيش في أمان بموجبها» على مدى «أكثر من ثمانمائة عام دون التقليل من شأن تلك القوانين»، ومن دون أن تخسر حريتها (196، 199). ما لا يكاد يقل عن ذلك روعة يتمثل فيما أنجزه رومولوس ونوما، أول ملكين لروما؛ فمن خلال العدد الكبير من القوانين الجيدة التي شرعاها، كانت صفة «القوة» «مفروضة على المدينة» بقدر من الحسم حال دون «ضرب الفساد أطنابها طوال قرون عديدة رغم عظمتها واتساعها»، وظلت «مفعمة بقوة كبيرة لم يسبق أن تميزت بها أي مدينة أو جمهورية» (195، 200).
وفقا لمكيافيللي، هذا يقودنا إلى أحد أهم الدروس المفيدة التي قد نأمل في تعلمها من دراسة التاريخ؛ فقد بين أن أعظم المشرعين هم أكثر من فهموا كيفية استخدام القانون من أجل إعلاء قضية العظمة المدنية، وبناء على ذلك، إذا حققنا في تفاصيل القوانين الدستورية التي وضعوها، فقد نتمكن من اكتشاف سر نجاحهم، ومن ثم إتاحة حكمة القدماء لحكام العالم المعاصر على نحو مباشر.
ناپیژندل شوی مخ