كتاب تفسير معاني السنة
تفسير معاني السنة والرد على من زعم أنها من رسول الله من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم
الحمدلله علام الغيوب، البريء من كل نصب ولغوب، الواحد العلي، القدوس الأزلي، الذي رفع السماء فبناها، وسطح الأرض فطحاها، خالق المخلوقين، ورب المربوبين، وباعث الموتى، ومبتدئ الأحياء، العالم بخفيات سرائر الغيوب، المطلع على غوامض سرائر القلوب، المتعالي عن القضاء بالفساد، المتقدس عن اتخاذ الصواحب والأولاد، الآمر لعباده بالرشاد، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الواحد الأحد العليم الخبير.
مخ ۶۴۶
أحمده على ما من به فينا، وتفضل به سبحانه علينا، من ولادة النبيين، ووراثة علم المرسلين، ونشكره على ما خصنا به، وجعلنا بفضله من أهل القيام (1) بحجته، والدعاة (2) لخلقه إلى ما افترضه عليهم، وأوجبه إيجابا مؤكدا فيهم، من الأمر بأمره، والنهي عن نهيه، والحكم بكتابه، والاتباع لدينه، والمجاهدة لمن جاهده (3)، والمعاضدة لمن نصره، والمعاداة لأعدائه، والموالاة لأوليائه، والقيام بأكبر فروضه قدرا، وأعظمها لديه خطرا، وهو الجهاد في سبيله، والمباينة لمن عند عن دينه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التوبة:111]، ثم قال تبارك وتعالى فيما يذكر من تعظيم ما ذكرنا من الجهاد الكريم: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما} [النساء:195 196]، ثم قال سبحانه فيما أمر به عباده من النفير في سبيل الله، والإحياء لشرائع دينه: {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [التوبة:41]، ثم قال تخويفا للقاعدين، وإعذارا وإنذارا للمتربصين، واحتجاجا على المتخلفين ؛ عن واجب ما أوجب أحكم الحاكمين، وتبيينا لفضل المنابذين؛ لمن نابذ شرائع الدين، وجهد في إبطال الحق واليقين، وكان ضدا مدافعا للحق، وكهفا وسندا للفسق: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} [التوبة:39]، ثم ذكر سبحانه فذم ذا التعلات(1)، وأهل التأويلات الباطلات، فأخبر أنه لاعذر لهم فيما به يعتذرون، ولاحجة لهم فيما فيه يتأولون، من التعلق بالشبهات، والتسبب لمنال (2) الفكاهات، والتلذذ بمقاربة الأولاد والزوجات، وجميع الأموال من التجارات، فقال سبحانه تحذيرا لهم، وتنبيها عن وسنتهم، وتيقيظا (3) لهم من رقدتهم: {قل إن كان آبآاؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة:24]،سمى من كان كذلك، أو ضرب لنفسه (1) تأويلا (2) في ذلك فاسقين، وأوجب لهم ما أوجب على الفاجرين، من عذاب الجحيم، والخلود في العذاب الأليم. ثم قال سبحانه ترغيبا لعباده المؤمنين، وإخبارا لهم بما أعد لهم على الجهاد من الثواب المبين: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} [الصف:10 13]، صدق الله سبحانه إن ذلك للتجارة الكبرى، والكرامة الجليلة العظمى، والحظ العظيم، والأمر الجسيم؛ الذي جل ذكره وعظم قدره، وحسن عند الله مآب فاعله، وجل لديه سبحانه خطر القائم به، جعله له سبحانه مؤتمنا على خلقه، ومرشدا إلى أمره، خصه بخواص الكرامة الكاملة، وأعطاه العطية الفاضلة، وجعله حجة شاملة، ونعمة على الخلائق دائمة. نسأل الله إيزاع شكره، وبلوغ ما نؤمل من طاعته، فإن ذلك أفضل ما أعطى الخلق من العطاء، وأعظم ما بلغه بالغ من الرجاء، ونسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وصفوته من بريته، صلى الله عليه وأهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
مخ ۶۴۸
ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أما بعد، فإنا نظرنا في أمور هذه الأمة وأسبابها، وقلبنا ما قلبنا من حالها وأخبارها، وافتراق أقاويلها، وفساد تأويلها، وقلة ائتلافها؛ فوجدنا أمورها تدل على أنها ضيعت ما به أمرت، حتى صعب قيادها، وكثر حيادها؛ فقل(1) فهمها، (وقل احتياطها)(2)، وكثر تخليطها، وصار لكلها قول مقول، وعمل فادح معمول، ينفر منه القلب الجهول، فضلا عن أهل المعرفة والعقول.
مخ ۶۴۹
كان من أنكر قولها، وأعظم جهلها؛ ما قالت به في الله سبحانه، ورمت به بجهلها رسوله، فزعمت لعظيم غفلتها وغامر(1) رقدتها؛ أن دينها الذي به تعبدها ربها كتاب ناطق مضيء، وسنة جاء به من نفسه النبي، شرعها من ذاته، وتخيرها للعباد بنظره، لم يأمر بها الرحمن، ولم تنزل عليه في آي القرآن، فزعمت بذلك من قولها، ولزمها في أصل مذهبها، وحاق بها في جميع قولها؛ أنها(2) زعمت فيما ذكرت وقالت: أن الله سبحانه وكل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدين إلى نفسه، ولم يشرع له كلما يحتاج إليه من فرضه، كأن لم تسمع الله سبحانه يقول، فيما نزل على نبيه من القول: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام:38]، ويقول سبحانه: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل:89]، وكأن لم يسمعوا قوله: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51]، فأخبر سبحانه بقوله: {أولم يكفهم} أن فيما نزل من تبيانه، ونوره وبرهانه؛ كفاية لهم في كل ما افترض عليهم، ولو كان ترك شيئا مما يحتاجون إليه لم ينزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن وعلى لسان جبريل؛ لم يقل: أولم يكفهم، فدل بما شهد به من الكفاية لهم على أنه لم يكل نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلى استخراج شيء مما افترض عليهم وعليه، وإنه لم يترك شيئا من فرائضه، ولا شرائع دينه؛ إلا وقد أوحى به إلى رسوله وحيا، ونزل عليه به نورا وهدى، فلم يكف هذه الأمة؛ ما نزل الله فيما ذكرنا من الحجة؛ حتى قالت: إن كل فرع مفرع مما فرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو منه اختيارا وتمييزا من نفسه، وأن ذلك ليس هو من ربه.
مخ ۶۵۰
من ذلك ما قال الله سبحانه في الصلاة الموجبة والزكاة المفترضة؛ حين يقول: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة:43، وغيرها]. فزعمت هذه الأمة فيما ذكرت، وبه على الله سبحانه اجترأت، أو من قال بذلك منها؛ أنه لم يكن من الله جل جلاله وعظم عن كل شأن شأنه في الصلاة غير ما أمر به من إقامتها، وأنه لم يحد لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم شيئا من حدودها، ولم يوقفه على ما به كمالها؛ من ركوعها وسجودها وعدد ركعاتها، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اخترع ذلك من نفسه، وسنه لأمته، وجعله دينا لها من ذاته. وأن شرائع الزكوات وما به تجب الزكاة في الأوقات المفروضات المؤقتات، وما يؤخذ من الأموال الصامتة والأنعام السائمة والأطعمات، وما يجب في التجارات من الأعشار وأنصافها، وما حدد في ذلك كله من الحدود المعروفة، وأوقف عليه في كل ذلك من الأفعال المفهومة؛ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله؛ وأن ذلك شيء فعله برأيه، واختاره بتمييزه(1)، وفعله باجتهاده، وفرضه على أمته، دون خالق المخلوقين، وإله العالمين.
وكذلك قالوا في جميع الفرائض(2) المفروضة، والفروع المفرعة(3).
فزعمت هذه الأمة، أو من قال بذلك منها: أن ما كان في الكتاب ناطقا موصولا؛ فهو من الله فرض مفترض، وما كان من تفريع الأصول، وتمييز ما ميز صلى الله عليه وآله وسلم من الفصول؛ فإنه منه لا من الله، وأنه فعله لا فعل الله، ثم سموا ذلك الفرع سنة، وأخرجوا معنى السنة من الفريضة، وتوهموا أن ذلك كما قالوا، ولم يعلموا ما عليهم في ذلك، حتى حكموا به وسموه كذلك.
مخ ۶۵۱
فلما عظم الأمر، وجل الخطر، ورأينا الهلكة واقعة بهم، والضلالة شاملة لهم؛ رأينا أن نفسر قول القائل: (سنة)، ونشرح ما السنة؟ وكيف كان تفريع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فرع من الأصول المنزلة، التي جاءت في كتاب الله سبحانه مجملة.
فقلنا: إن رسول الله عليه السلام لم يكن ليخترع أمرا دون الله سبحانه، وأنه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم حين يقول: {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [الأحقاف:9]، وكما قال عليه السلام: {وما أنا من المتكلفين} [ص:86].
مخ ۶۵۲
ونقول: إن الله سبحانه لم يكل شيئا من ذلك إلى نبيه يبتدعه ولا يشرعه، ولا يفرضه ولا يثبته، إذا لقد كلفه شططا من أمره، وألزمه معوزا من فعله، بل القول في ذلك المبين، والحق النير اليقين؛ أن الله سبحانه، وجل عن كل شأن شأنه؛ أصل(1) أصول فرائضه في الكتاب المبين، ونزله على خاتم النبيين، فجعل في كتابه أصل(2) كل ما افترضه من الدين، وبينه لجميع العالمين، فكانت أصول الدين في الكتاب كلها، وجاءت الفصول مفصولة، والفروع المفرعة؛ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله ذي الجلال والإكرام؛ على لسان الملك الكريم؛ جبريل الروح الأمين، فنزل شرائع(3) الدين، وتفريع أصول القرآن المبين، على محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما نزل عليه السلام بالأصول إليه، وكان نزوله بالفروع مفرعة؛ كنزوله بالأصول المجملة المجتمعة، وأدى جبريل الروح الأمين، إلى محمد خاتم النبيين؛ فروع شرائع الدين، عن الله رب العالمين؛ كما أدى مجملات أصول القرآن المبين. والسبب في تفريق ذلك من الله، فنظر من الله لبريته، وعائدة على خلقه، ولطف في فعله وصنعه، وتقوية لمن أراد حفظ كتابه، وجعل(4) ما نزل من وحيه وبيانه. فخفف عنهم في الكتاب، وأعانهم بذلك في كل الأسباب، ففرق بين الأصول الموصلة، والفروع المفرعة، فجعل الأصول في الكتاب مجملة جاء بها جبريل، وجعل الفروع في غير الكتاب جاء بها أيضا جبريل، وكل من الله(5) وحي مبين وتفصيل، وفرضا منه سبحانه وتنزيل، بعث بهما كليهما رسولا واحدا، ملكا عند الله مقربا، أمينا مؤتمنا، فأدى إلى الرسول ما به أرسل، وتلا عليه من ذلك ما أمر بتلاوته عليه، فكان ذلك من الله فرضا مميزا، ودينا من الله مفترضا، لم يكن من رسوله فيه اختيار، ولم يشرع لأمته من دين الله إلا ما شرع الله، ولم يأمرها إلا بما أمرها الله، ولم ينهها إلا عما نهاها الله.
مخ ۶۵۳
من ذلك ما قلنا به من قول الله: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة:43، وغيرها]، فنزلت هاتان اللفظتان في القرآن موصلتين، وجاءتا فيه مجملتين، فاحتملت الصلاة أن يصلى كثيرا أو قليلا، إذ جاء ذلك مجملا، ثم فسر الله ذلك على لسان جبريل، كما نزل على لسانه القرآن الجليل، فجعل الله الظهر أربعا، والعصر أربعا، والمغرب ثلاثا، والعتمة أربعا، والصبح اثنتين، فبين لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ما جاء في كتابه مجملا؛ من أمره بالصلاة جزما، ولم يكله إلى أن يتكمه في ذلك تكمها، ولا أن يتخبط فيه صلى الله عليه وآله وسلم تخبطا. وكذلك لما أن قال سبحانه(1): {وآتوا الزكاة}، احتمل أن تؤخذ من كل دينار ودرهم، وشاة وجمل، ومد ومكوك(2)، ومن الغني والفقير، ومالك ألف شاة، ومستغل ألف مد، ومستغل مد، وصاحب ألف دينار وصاحب دينار؛ لأنه سبحانه يقول: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، ولم يفسر فيما أنزل من القرآن، كم يأخذ من كل إنسان، مالك الحقير والقليل، ومالك الكثير والجليل. ثم فسر سبحانه على لسان الملك الذي نزل بالقرآن، من عند الواحد الرحمن؛ ما يجب في الأموال، وما يؤخذ من أهلها في كل حال، وما يجب على المالك المؤسر، وفي كم تسقط عن المالك المعسر، وكم هي؟ وكيف هي؟ حتى سنن أسنان مواشيها، فجعلها سنا سنا، في عدد معروف معلوم، وكذلك فيما يكال ويوزن من الوزن والكيل المفهوم.
مخ ۶۵۴
وكذلك قال تبارك وتعالى في الديات، فقال: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} [البقرة:178]، (فقال سبحانه: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان})(1)، فقال: {عفي} يريد من القتل(2) إلى الدية، فأمر(3) بأداء الدية إلى من عفى، إذا قبل الدية وأرادها. ثم قال سبحانه في موقع آخر: {فدية مسلمة إلى أهله} [النساء:92]، في قتل الخطأ فأوجب الدية. وقال في موضع آخر: {والجروح قصاص} [المائدة:45]، فجعل في جروح العمد القصاص، وجعل القود(4) في قتل العمد، وجعل الديات في جروح الخطأ، فأنزل ذكر ذلك في الكتاب مجملا، ولم يجعله مشروحا مفسرا، ثم بينه على لسان نبيه وفسره، وجعل الدية ألف مثقال في أهل الذهب، وعشرة آلاف درهم قفلة في أهل الدراهم، وجعلها ألفي شاة في أهل الغنم، وجعلها مائتي بقرة في أهل البقر، ومائة من الإبل في أهل الإبل، ثم سننها وبينها على لسان نبيه عليه السلام، ثم لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء إلا البيان، والأداء عن الله بإحسان.
مخ ۶۵۵
وكذلك جميع الفرائض والمواريث، ففسر منها في كتابه ما فسر(1)، وفسر على لسان نبيه(2) باقي ذلك. وكذلك في جميع أحكام الحلال والحرام، فكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه حلال؛ لا يجوز تحريمه، وما قال إنه حرام؛ لا يجوز تحليله، وكل ما أوقف الأمة عليه، وجعله فرضا عليها مفروضا؛ لم يجز لها تعديه، ولم يطلق لها النقصان ولا الزيادة فيه؛ فهو من الله سبحانه لا منه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يزد رسول الله عليه السلام فيما أمر به، ولم ينقص منه، بل أدى الأمانة والنصيحة فيه صلوات الله وبركاته عليه.
فمن قال: إن شيئا من هذه المحصورات(3)؛ من المحرمات والمحللات؛ كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة ابتدعها لم تبين ولم تشرح ولم تشرع؛ فقد جهل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجهل في قوله بذلك الله عز وجل، سبحانه عن ذلك، وتعالى علوا كبيرا أن يكون كذلك، أو أن يكل نبيه عليه السلام إلى نفسه، أو أن يجعل إليه شيئا من فرض دينه، حتى يفرضه دونه.
ومعنى قول القائل: سنه، فإنما هو بينه وأظهره، وذكره عن الله وشرعه، وبينه عنه سبحانه وأعلنه، لا أنه اقترحه ولا اخترعه.
مخ ۶۵۶
ومن الحجة في ذلك أن يقال لمن قال أو ظن هذا القبيح من الظن: أخبرنا عن دين الإسلام وأحكامه، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من نوره وبرهانه، وما اختار(1) فيه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ هل كان عند الله معلوما، ومن قبل خلق الدنيا في علمه تبارك وتعالى مفهوما، لا يزل عنه منه صغير، ولا يغيب عنه طول الدهر منه كبير؟ فلا يجد بدا من أن يقول: نعم، قد كان دين الإسلام وشرائعه، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من فروضه وحدوده؛ عند الله سبحانه معلوما، لم تزد بعثة محمد ولا إيجاده في حدود الإسلام وما علمه الله من فرائض دين محمد عليه السلام شيئا، بل جاءت وكانت، وافترضت وبانت؛ بعد بعثة محمد على الأصل الذي كان عند الله معلوما، الذي(2) اختاره على الأديان كلها لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته.
فيقال له عند إتيانه بما ذكرنا، وتثبيته(3) لما قلنا وشرحنا: أيها المناظر، إذا كان عندك هذا القول على ما قلت، فمن أين علم محمد صلى الله عليه جميع ذلك؟ حتى استخرج مكنون علم الله القديم، وشرائع دين الله الكريم، حتى أتى بها على ما كانت، وبينها على ما فرضت، وأقامها على ما حددت، من قبل إيجاده وخلقه، وكينونته (وبعثته) (4).
فإن قال: استخرجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعقله، واستدل عليها بلبه.
قيل له: سبحان الله ما أجهل هذا المقال، وأفحش هذا الفعال؟! وكيف يستدل بعقل على علم غيب عند الله مكتوم؟! هذا ما لا يكون أبدا؛ إذ المخلوقون(5) لا يعلمون غيبا، ولا يفهمون (6) مما استسر به سرا.
فإن قال: علمه بتوفيق الله.
مخ ۶۵۷
قيل له: ليس هذا مما يلزمه التوفيق، ولا يجوز عليه فيه طرف من التحقيق، لما فيه من عظيم فروض الله، وجليل صنع الله، وأمره ونهيه، وزجره وفعله، وما أوجب به وفيه وعليه من الثواب للمطيعين، والعقاب على العاصين. وإنما يكون من الله التوفيق في غير المفروضات من الأمور، فأما شرائع الدين؛ وما تعبد به المسلمين؛ فلا يكون إلا بتبليغ الرسل، والاحتجاج بذلك على جميع الملل. فلا يجد بدا من الإقرار بالحق، والتعلق بعلائق الصدق(1)، والرجوع إلى قول المؤمنين، أو أن يثبت على باطله، من بعد إثبات الحجة (عليه في مذهبه) (2)، فيكون عند نفسه وعند غيره مكابرا، وللحجج البالغة مناصبا، ولا يجوز له في دينه احتجاج ولا بيان، ولا يجد على الباطل بحمد الله عونا ولابرهانا، فإذا بان له خطأ هذين المعنيين، وفساد هذين الوجهين؛ لم يجد بدا من أن يقول بقولنا؛ فيزعم أن جميع ذلك من الله سبحانه وحي أوحاه إلى نبيه على لسان ملكه، كما أوحى القرآن على لسانه.
ولعمري ما سبيل أصول الأحكام، وما تعبد الله به أمة محمد عليه السلام؛ إلا كفرعها، ولا فروعها إلا كأصولها، وما أصولها وإن جاءت في الكتاب مجملة؛ بأوكد فرضا من فروعها المتفرعة، وما كان محمد عليه السلام إلى علم مجملها؛ بأحوج منه إلى علم فروعها؛ لأن الفروع هي العمل، والعمل فهو الإيمان؛ لان الإيمان كما قال أمير المؤمنين: (( قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول )). والفروع فهي أصول الأعمال وأصول الإيمان، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلا بد أن سبيلها عند الله كسبيل ما أجمل في القرآن، لا يختلف معنى الفروع والأصول، إلا عند من سلب العقول.
مخ ۶۵۸
ومن الحجة على ما به قلنا؛ من أن الله سبحانه نزل الفروع على نبينا(1)، كما نزل الأصول في كتابنا؛ قول الله سبحانه: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}[الشورى: 25] فأخبره أنه لم يكن يدري ما هذا الكتاب المجمل، ولا هذه الفروع التي هي الإيمان المنزل.
وفي ذلك ما يقول: {ووجدك ضالا فهدى}[الضحى: 7]، يريد تبارك وتعالى ضالا عن شرائع الدين، وفروع ما أجمل في القرآن المبين، فلم يكن صلى الله عليه يدري كم يصلي الظهر، ولا كم عدد العصر، ولا كم يأخذ من أموال الناس المسلمين من الزكاة، ولا كم فرض الله عز وجل فيها، ولا متى تجب، ولا في كم تجب، بل كان ضالا عن ذلك كله، وضلاله عنه فهو: جهله به، وقلة معرفته بما يريد الله أن يفترض عليه. فلم يكن عليه السلام يعلم من ذلك إلا ما علم، ولم يفرض على الأمة إلا ما به أمر، ولم يكن من المتكلفين، ولا من غير ما أمر به من المتكلفين(2).
مخ ۶۵۹
ومن الحجة في ذلك أنه لو كان كما يقول الجاهلون، ويتكلم به الضالون، من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرع هذه الفروع، من نفسه، وأوجدها(1) وبينها من دون ربه؛ لكان محمد عليه السلام؛ المفترض لجميع هذه الفرائض والأحكام على جميع الأنام، دون الله الواحد ذي الجلال والإكرام، ولو كان صلوات الله عليه المفترض لذلك، المحدد له الجاعل على أمته، لكان هو المتعبد لها بفرضه، المدخل لها في حكمه، المصرف لها في عبادته، دون الله تبارك وتعالى عن ذلك، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون كذلك؛ لأن الأمة إنما عبدت الله بهذه الشرائع وهذه الفروع، وبإقامة هذه الأحكام، وتحليل الحلال منها وتحريم الحرام.
فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول الجاهل(2) من أهل هذا المقال هو المفرع لهذه الفروع والناشر لها والمتخير فيها، المحلل لحلالها المحرم لحرامها، اختيارا منه بفعله، وتمييزا منه بلبه، وحتما منه على أمته، اختراعا له دون ربه؛ لكان محمد متعبدا(3) للأمة بفرضه، وكانت الأمة عابدة محمدا دون ربه؛ إذ هي قائمة بفرائض محمد ساعية فيها، مقيمة لها مستقيمة عليها. وفي هذا ومثله وفي القول بيسيره أكفر الكفر بالله سبحانه وأجهل الجهل به، وأكبر الطعن على رسوله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
بل القول في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفترض فريضة دون الله، ولم يحكم في دم ولا فرج إلا بالله، وأن الله سبحانه هو مؤصل الأصول، ومجمل المجمل(4)، ومفصل المفصل، ومفرع المفرعات، ومبين الملتبسات، المتولي لتعبد خلقه؛ بما شاء سبحانه من فرضه. وأن نبيه صلوات الله عليه لم يزد ولم ينقص في شيء مما أمر بتبيينه للعباد، وأنه قد بلغ وأرشد غاية الإرشاد.
مخ ۶۶۰
ثم نقول: إن كل ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه حرام لا يجوز تحليله، أو إنه حلال لا يجوز تحريمه، ومحظور لا يجوز إطلاقه، ومطلق لا يجوز حظره؛ فإنه من الله لا منه، وأنه لم يفعل ذلك إلا بأمر الله، ولم يتعد فيه فرض الله، وأن ذلك لا زم للأمة، وأن لمن خالفه أو نقض بعضه العقاب والعذاب، وأن لمن أداه على وجهه وعبد الله بما تعبده به الثواب.
فكل ما ذكرنا من ذلك من الحلال والحرام، وشرائع الدين والأحكام، فهي من الله حقا حقا. وليس حالها كحال غيرها مما جعله رسول الله عليه السلام من نفسه واختياره ورآه، مما لم يجعل الله ولا رسوله على تاركه عقابا. مثل ما سن من الوتر، وتقليم الأظفار، وحلق الشعر، والسواك، وتعفية اللحية، وأخذ الشارب، وغير ذلك مما سن وفعل، واختار لنفسه من زيادات العبادة والصلاة، مثل ما كان يصلي ويلزم ويحب، من ركعات كان يصليهن فيما سوى الفريضة. ومثل ما كان يرى من التعزيرات، ويفعله عند النازلات، وما كان يكون منه من التأديب لأمته على ما يكون من خطأ أفعالها؛
لأن الخطأ من أفعال الأمة على أربعة أوجه(1):
فوجه يجب لله فيه حد، وهو ما جعل فيه سبحانه حدا في كتابه وسماه، مثل: ضرب الزانيين(2)، وقطع السارقين، وحد القاذفين، وما أشبه ذلك مما جاء في الكتاب حده مبينا.
والوجه الثاني: فما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحده له وأمره به؛ من أدب من ارتكب شيئا محرما، مثل: حد الخمر المحرمة في الكتاب، نزل بالحد فيها وفسره كما فسر غيره من الفروع جبريل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
مخ ۶۶۱
والوجه الثالث: فخطأ من أفعال العباد، يجب للنبي عليه السلام فيه الأدب على فاعله، وهو مثل رجل لو ضم امرأة إليه، أو قبلها، أو نظر إلى شعرها أو بشرها، فلرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاختيار في أدبه وتعزيره، على قدر ما كان من فعله وجرمه، يقل الأدب أو يكثر، على قدر ما يرى من بلوغ الأدب، وجزع(1) المؤدب.
وكذلك الأئمة لها في ذلك الاختيار، تعزر بما رأت، يقل الأدب أو يكثر، على قدر ما ترى من عظم الجرم وصغره، وبلوغ الأدب في المؤدب، واحتماله للأدب، عليها فرض أن تعمل النظر في ذلك، وتتحرى التنكيل للمؤدبين، قل الضرب في ذلك أو كثر، تطلب بلوغ جزع المؤدب والإبلاغ منه؛ بما ترى فيه من الصلاح له.
والوجه الرابع فهو: اللمم الذي ذكر الله، وهو فعل لا يجب فيه الحد لله، ولا لرسوله ولا للأئمة أدب. واللمم فهو: ما ألم به صاحبه من غير تعمد ولا اعتقاد، ولا هم ولا عزم، مثل: النظر عن غير تعمد، والمزاحمة للمرأة عن غير قصد، وما أشبه ذلك مما لم يتقدم له ذكر في ذلك على فاعله، ولم يقصد به اجتراء على خالقه، ولا تعمدا لإتيان معصية(2)، ولا استحلال محرم فهذا معنى اللمم الذي ذكره الله سبحانه.
ومن الحجة على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرع من ذاته شيئا من الفرائض المحكمات، أو شرع من ذاته شيئا من الأحكام المشروعات؛ أن يقال له: خبرنا عن فعل الله، هل هو فعل نبيه؟ وعن فعل نبيه هل هو فعله؟
فمن أصل قوله إذا كان موحدا، وبالله عارفا، أن يقول: لا، ثم يقول: فعل الله خلاف فعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل محمد خلاف فعل الله عز وجل. فيقال له حينئذ: ألا ترى أن هذا الذي ذكرت أن محمدا فرعه وشرعه وفصله، وأمر العباد بفعله؛ هو فعل لمحمد؟ فإذا قال: نعم، قيل له: أفليس فعل محمد خلاف فعل الله؟
مخ ۶۶۲
فإذا قال: نعم. قيل له: فمحمد إذن هو المفترض للفرائض على الأمة دون الله؛ إذ كان فعل محمد خلاف فعل الله، ومحمد إذا لو كان ذلك كذلك كان المعبود بأداء فرائضه دون الله؛ إذ الفرض من محمد لا من الله. فلا يجد بدا إن كان بالله عارفا، وله موحدا؛ من أن يرد جميع ما تعبد به الأمة إلى الله عز وجل، ويزعم ويقول ويعتقد أنه من الله، حتى يصح له القول بأن المسلمين عبدوا الله لاغيره، ويثبت الفعل في فرض المفروضات لله لا لغير الله؛ لأن العبادة من العابدين لم تصح إلا بأداء الفرائض لمن افترضها، فمن ثبتت له الشرائع والتفريع والتبيين؛ ثبتت له الفرائض، ومن ثبت له الافتراض للمفروضات؛ ثبتت له العبادة في كل الحالات من العابدين، وهم المؤدون للفرائض المحكمة، والشرائع المثبتة، التي لا تصح لهم عبادة إلا بأدائها، ولا ديانة إلا بإقامتها.
فهذه حجة على من عرف الله بالغة كاملة، بينة نيرة، تبين لمن أفكر فيها، وتصح لمن تدبر معانيها. والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين.
ومن الحجة على من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول المبطلون؛ أنه لو فرع الفروع من نفسه، وأوجبها على الأمة دون ربه، لكان المتعبد لنفسه بالفرض(1) الذي أوجبه عليها وفرعه لها؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أول العابدين، وأخلص المخلصين، وأقوم القائمين بهذه الفروض المفروضات، والفروع المفرعات، فهو قائم بها، عابد لمن فرضها بإقامته لحدودها. فالفارض(2) لها هو المعبود دون غيره، فتبارك الله رب العالمين، الذي فرض فرائضه على جميع المربوبين، الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع الثقلين.
مخ ۶۶۳
وفي تبري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التكلف لشيء(1) من فروع أحكام الله عز وجل وفرضه، وما جعل من برهانه ودينه، ما يقول الله تبارك وتعالى: {وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي}[الأعراف: 203].
فإن قال قائل: ما معنى قول من يقول: سنة؟ وما معنى دعاء من دعا إلى الكتاب والسنة؟
قيل له: معنى الدعاء إلى ذلك هو: الدعاء إلى الأصول الموصلة، والجمل المجملة، والآيات المنزلة. وإلى الفروع المفرعة، والأحكام المحكمة، والشرائع المبينة، والطاعات المفترضة.
والكتاب فهو جزء من وحي الله وأحكامه، وسنته جزء آخر من وحي الله وتبيانه. فسمى الوحي الذي فيه أصول المحكمات من الأمهات المنزلات قرآنا؛ لأنه جعل الأصول إماما وقواما، وللفروع المفرعات أصولا وتبيانا. وسمى الجزء الثاني من وحي الله عز وجل وفرائضه سنة وبرهانا. فكان ما يتلى في آناء الليل والنهار أحق بأن يسمى قرآنا؛ لما فيه من واجب التلاوات، وما يتعبد به المتعبدون من الدراسات، وكان ما فسر به المجملات، مما بين به المتشابهات من الفروع المبينات، أولى بأسماء السنة في الباين من اللغات؛ لأن معنى السنة، هو: التبيين للموجبات للحجة. لقول العرب: سن فلان سنة، تريد بين أمرا، وشرع خيرا، وجعل شيئا يستن به فيه. ومعنى: يستن به، أي يقتدى به فيه ويحتذا.
وكذلك وعلى ذلك يخرج معنى قول القائل: سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، يريد أظهر وبين ما جاء به من عند الله. والسنة فهي الأحكام المبينة، والفرائض المفصلة، فهي لله سبحانه ومنه، لا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عنه، وليس له فيها فعل غير التبليغ والأداء، والنصيحة(2) والإبلاء.
مخ ۶۶۴
والسنة فهي سنة الله عز وجل، وإنما نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مجاز الكلام؛ إذ هو المبلغ لها، والآتي عن الله سبحانه بها، كما يقال للقرآن: كتاب محمد، وكما يقال للإنجيل: كتاب عيسى، وكما يقال للتوراة: كتاب موسى، قال الله سبحانه في ذلك، وما كان من الأمر كذلك: {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا}[هود : 17]، فسماه كتاب موسى ونسبه إليه، وإنما هو كتاب الله عز وجل الذي نزل على موسى. وكذلك مجرى السنة في قول القائل: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يريد سنة الله، ومعنى سنة الله، فهو فرض الله وحكمه، وتبيانه لدينه وعزمه، قال الله جل جلاله: {سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}[غافر: 85] يريد سبحانه بقوله: سنة الله، أي ذكر الله وفعله، وصنعه في خلقه وأمره.
ومن قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد بها غير ما ذكرنا من المعنى، أو توهم في ذلك أنه شيء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله؛ فقد جهل أمر الله، وحرف معاني وتأويل قول الله، ونسب البهتان إلى رسول الله صلى الله عليه، وقال بأفحش القول في الله سبحانه وفيه.
والسنة فلم تعارض الكتاب أبدا؛ بإبطال لحكم من أحكامه، ولا أمر من أمره، ولا نهي عن نهيه، ولا إزاحة شيء من خبره، ولا رد شيء من منسوخه، ولانسخ شيء من مثبته، ولا إحكام شيء من متشابهه، ولا تغيير شيء من محكمه، بل السنة محكمة لكل أمر من الأحكام المؤصلة، المبينة للمعاني المفصلة، مفرعة للمجملات المنبئة(1) عن التأويلات، يشهد لها محكم الكتاب، وتنبي عنها جميع الأسباب؛ أنها من الله رب الأرباب.
مخ ۶۶۵
وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الفروع التي جاءته(1) عن الله عز وجل وتبارك وتعالى، حتى يقال إنها من السنة فلم يشهد له الكتاب، ولم يوجد فيه ذكرها مفصلا، أو مجملا مؤصلا ثابتا، فليس هو من الله، وما لم يكن من الله فلم يقله رسول الله، وما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحكه عن الله؛ فهو ضد السنة لا منها، وما لم يكن منها لم يجز في دين الله أن ينسب إليها.
فآيات الكتاب هي الأمهات؛ لشرائع سنته(2) المفرعات، والأمهات فهن المحكمات، وإليهن ترد المفصلات.
ومن الشواهد لما جاء من الروايات؛ مما حكي من السنن المبينات، وفي ذلك ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم(3) عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله )) يريد صلى الله عليه وآله وسلم: أن ما وافق الكتاب مما روي عنه من الأحكام، ومن شرائع الإسلام؛ فإنه منه أخذ، وإنه جاء به عن الله، وما خالف الكتاب فليس من السنة التي جاء بها عن الله؛ لأن جميع الوحي الذي جاء عن الله سبحانه من السنة والقرآن، فهما شيئان(4) متشابهان متفقان، لا يتضادان أبدا ولا يفترقان.
وليس ما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعل أو اختيار جاء به عن نفسه منسوبا إلى الله ولا عنه، ولا مشابها لشيء من أحكام السنن. بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى رأيا، وفعل فعلا مما ليس هو فيه بمخالف لسنة ولا لكتاب، بين ذلك عن نفسه، وأخبر أنه ليس من ربه.
مخ ۶۶۶