72

على أن هناك صورا أخرى تتراكب فوق تلك الصور الأولى، ومن الصعب علي أن أتحدث عنها بالتفاصيل، وأعني بها صور أشهر الصيف التي قضيناها مع الأطفال. كانت الحرب في أوروبا، وكانت هناك أحداث جارية مؤسفة تغير من وضع هذا المكان الفريد. هناك الآن كثير من الأشياء التي تثور في قلوبنا المتألمة. ترى هل سأراك يا قدس؟! وإن عدت إليك، فما الذي سأستشعره من دون طه؟!

عدنا إلى لبنان أكثر من مرة، وبقينا فيه فترة أكثر طولا. ففي عام 1927 عرفنا حمانا. كان لامارتين قد أحب هذه البلدة الصغيرة القائمة على مرتفع في الجبل يطل على غابات الصنوبر مثلما أحببناها نحن أيضا. وكان الفندق المتواضع يقوم بالقرب من شلال ماء في منتهى الجمال، وهو أمر نادر في لبنان، وأعني به شلال الشاغور. كما كان ثمة أشجار جميلة وارفة كنت أحب أن أستريح في ظلالها، لكنها كانت دوما حافلة بنزلاء الفندق أو بأهالي البلدة الذين كانوا يلعبون ويصخبون كصخب الماء المتساقط، وإنما بصورة أقل شاعرية منه!

كان الجميع في منتهى اللطف، وقد أقيمت مناظرات في الزجل على شرف طه. وفي الهواء العذب الندي كان الشعراء يرددون القوافي الرنانة بالتبادل كما لو كانوا يردون كرة اللعب، وكانت تؤلف على هذا النحو قصائد لا تنتهي. وقد كانت لي حصتي من الثناء، فبالإضافة إلى الابتسامة التي أثارها صياح أحد الزجالين عندما قال لي: «سيبقى اسمك يا سيدتي منحوتا على جرانيت الشاغور.» فإنني قد تأثرت عميق التأثر.

كان في الفندق معنا الممثل المصري الشهير جورج أبيض تصحبه زوجته وطفلهما. كانت دولت أبيض ممثلة هي الأخرى، وكنا نستشعر دوما موهبتها العظيمة. وكانت بالطبع نبيلة رصينة السلوك بليغة الحديث. ولم ينس أولئك الذين رأوها تمثل في مسرحية أندروماك حماسهم على الإطلاق، كما كانت تسهم أيضا في برامج إذاعية. ولئن لم أكن أراها كثيرا مثلما كنت أتمنى، فإني أشعر نحوها مع ذلك بكثير من الود والصداقة.

ثم جاءت سنوات الحرب: 1941، 1942، 1943، 1944. كنا نذهب إلى جبال لبنان لقضاء بعض الوقت في نهاية كل صيف؛ كي يستعيد طه والطفلان قواهم بعد العمل طيلة السنة وبعد تحملهم حرارة الصيف الخانقة. فقد غدا لبنان بلد الإجازات والاصطياف بالنسبة إلى كثير ممن لم يكن بوسعهم العودة إلى بلادهم، وكذلك بالنسبة إلى كثير من المصريين المتعبين. كان من الممكن اجتياز فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني آنذاك. وكنا ننطلق بالسيارة؛ كانت رحلة رائعة في قلب الصحراء، كنا نتوقف خلالها في محطات ذات أسماء متميزة: العريش، غزة، الخليل، بيت لحم، حتى نصل إلى القدس. وعلى الطريق إلى بيروت، بعد اجتياز رأس الناقورة، كنا نطل على البحر ونتمتع بمرأى الشواطئ المنفردة الساحرة التي كنت أود لو أنزل إليها. أما على اليمين، فقد كانت سلسلة الجبال تبدأ في البروز. عندما قمنا بهذه الرحلة للمرة الأولى، كانت هناك سيارة أخرى معنا، وكان يرافقنا صديقانا: الجراح كامل حسين

117

وعالم الجغرافيا محمد عوض.

118

لم نكن نعرف تماما أين نتوقف. فبعد أن تركنا الآخرين في بيروت انطلقنا، كامل ومؤنس وأنا، لنتعرف على المناطق. ذهبنا بعيدا. وعلى بعد عدة كيلومترات من بيروت، على طريق العودة، اكتشفنا المكان والفندق الذي كان يناسبنا، أعني قرية بيت مري، التي ترتفع عن سطح البحر 800 متر. كان الهواء فيها نقيا، كما أن فيها أشجار الصنوبر ذات الرائحة الجميلة. لم يكن ثمة ماء يجري من تحت الأشجار، بل كان هناك بدلا منه سحر مناظر الجبل التي كانت أيضا مناظر تعرفها الشواطئ المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. كان هناك قادمون من مصر أو العراق أو من مناطق أخرى قد اكتسحوا البلدة والمنطقة كلها، وكان من حسن حظنا أن عثرنا على غرف في «جراند أوتيل ». كانت الشرفتان تسعداننا؛ إذ كنا نرى من إحداهما البحر حتى خليج جونيه، في حين كنا نرى من الأخرى سلسلة جبال لبنان والصنوبر الذي كان يظللها. وهناك قضى طه أيامه وعمل كثيرا، أما الطفلان فقد كانا يقومان بنزهات قصيرة بالطبع. وفي أحد الأيام، بعد عودة محمد عوض كما أظن، أرادا الذهاب مع كامل ورفاق آخرين إلى الجهة الأخرى من الوادي المنخفض انخفاضا عميقا تحت القرية. وهكذا مشوا زمنا وهم يأكلون ويتحدثون مع سكان الجبل، وكانوا سعداء جدا. كنا ننتظرهم، وعند ساعة العشاء لم يكن أحد منهم قد عاد بعد. كان المساء قد حل وأقبل الليل، فاستحال انتظارنا قلقا؛ إذ كنا نعلم أنه لم يكن هناك طرقات في المنطقة التي ذهبوا نحوها ولا ممرات حقيقية يمكن استخدامها. وكنا نتخيل ما يمكن أن يحدث لهم ما وسعنا التخيل. وإذ شعر صاحب الفندق بالقلق مثلنا فقد نظم فريق نجدة من متطوعين يلبسون أحذية طويلة ويحملون المصابيح الكبيرة. وفي اللحظة التي أوشك فيها أفراد الفريق على مغادرة الفندق، ظهر ضائعونا المنهكون يجرون - إذا جاز القول دون أن يكون في ذلك مس بالاحترام الذي أكنه له - كامل المسكين الذي كان قد تعثر لسوء الحظ بالحجارة فالتوى عرقوبه، وهو يتأوه. كانوا جميعا في قاع الوادي ولم يكن لديهم أية وسيلة لإعلامنا بما جرى. ولما كان كامل جراح عظام؛ فقد ضحكنا منه كثيرا عندما طمأننا عنهم جميعا.

لا أدري إذا كان زيوار باشا حاضرا ذلك المساء الشهير. فهذا السياسي المصري

ناپیژندل شوی مخ