مراجعة
محمود أمين العالم
هذا الكتاب
قبل نيف وثلاثين عاما، قام جاك بيرك، المستعرب وأستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري للعالم العربي في الكوليج دو فرانس، بتخصيص سنتين من درسه الأسبوعي لدراسة طه حسين ودوره في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة. كانت سنتان قد مضتا على وفاة طه حسين، وكان - وقد ارتبط بعلاقة صداقة حميمة معه - يرتبط أيضا بالعلاقة نفسها مع زوجة طه حسين «سوزان» ومع ابنه «مؤنس»، الذي كان يعمل في اليونسكو ويعيش في باريس على الدوام. وقد كان يبدي في كل مناسبة إعجابه بهذه العلاقة الفريدة من نوعها التي ربطت طه حسين بزوجته: مسلم ومسيحية، مصري وفرنسية، عربي الثقافة والانتماء الحضاري وأوروبية في ثقافتها وانتمائها ... علاقة استمرت أكثر من خمسين عاما نسجها حب عميق واحترام لا يقل عنه عمقا. وكان أكثر ما يثير إعجابه فيها أن هذا الاحترام طال في حياتهما المشتركة حرية العقيدة؛ فقد كانت مسيحية وبقيت كذلك في رفقة زوج مسلم لا يثنيها عن دينها ولا يحاول. ولم يكن ذلك أمرا شديد الندرة، بل فريدا في وقته وفي مجتمعه. فاقترح عليها في إحدى زياراتها إلى باريس ولقائها به بعد وفاة طه حسين، أن تكتب تجربتها هذه لتقدم طه حسين تحت أضواء لم يسبق أن سلطت عليه من قبل، ولا يسع أحدا أن يقوم بذلك سواها. وأكاد أظن أنه أوحى لها بأنهما ما داما كانا يقومان برحلتهما السنوية التي تقودهما في بداية صيف كل سنة من شواطئ الإسكندرية إلى شواطئ أوروبا الإيطالية أو الفرنسية، فلتقم على صفحات كتاب بمثل هذه الرحلة، تقول خلالها طه الإنسان والأب والزوج وحياته وعلاقتها معه وعلاقته معها، مستعرضة معاركه وهمومه وأحلامه وأهدافه كاتبا ومناضلا سياسيا وصحفيا ومربيا وجامعيا وأكاديميا ووزيرا ... وأخبرها أنها إن كتبت هذا الكتاب فسيقترح عليها أن يقوم بترجمته كاتب سوري لكي يؤكد على البعد العربي لمشروع طه حسين الثقافي، وكنت من اقترح بيرك اختياره لهذه المهمة، وأن يقوم بمراجعة الترجمة كاتب مصري تقدمي لكي يؤكد على البعد المستقبلي لهذا المشروع، وكان اختياره قد وقع على الصديق الأستاذ محمود أمين العالم.
ولقد جاء الكتاب فريدا من نوعه شكلا ومضمونا كما كان يقال في لغة النقد الأدبي الكلاسيكية! فلا هو رواية على امتلاكه كثيرا من عناصرها، ولا هو قصة طويلة على وجود شخصية رئيسية أساسية، ولا هو رسالة حب حميمة على ما ينطوي عليه من فصول ومقاطع يسود فيها ضمير المخاطب: منها إليه، ولا هو تأريخ على ما فيه من سرد لحوادث كبرى عرفتها مصر خلال حياة طه حسين، ولا هو، أخيرا، يوميات على ما تضمنه من ضبط إيقاع الكتاب؛ تارة بناء على تواريخ معينة، وتارة بناء على مواقع محددة ... وأجرؤ على القول إن فيه من كل شكل من هذه الأشكال عناصر صنعت فرادته فعلا وجماله فعلا وخصوصيته فعلا.
كان هم السيدة سوزان طه حسين أن تتم ترجمة الكتاب وأن ينشر بأسرع وقت ممكن؛ لتتمكن من رؤيته يقرأ في مصر وفيما وراء مصر في العالم العربي. ولم تكن تلقي بالا إلى نشره بالفرنسية؛ فقد قررت أن القارئ الفرنسي لن يحفل بمثل هذا الكتاب، وإنما القارئ العربي هو الأولى به. ومن ثم فقد وضعت ذات يوم بين يدي نص المخطوط مضروبا على الآلة الكاتبة ومصححا بخط يدها ...
ذات يوم ...
فقد ضرب لي مؤنس طه حسين موعدا بعد ظهيرة يوم من الأسبوع، لا أذكر تاريخه، للقاء والدته في بيته بباريس. كنت أهاب اللقاء. ها أنا ذا وقد عشت سنين إطلالتي على الحياة غارقا في كتب العقاد ومسرحيات توفيق الحكيم وروايات وكتب طه حسين؛ هذا الثلاثي الكبير الذي ملأ الحياة الأدبية والفكرية في مصر، بل وفي العالم العربي على امتداد عشرات السنين في القرن الماضي ، أقول ها أنا ذا وقد راسلت العقاد وراسلني وحفظت رسالته إلي عن ظهر قلب ولا أزال، دون أن ألتقي به؛ ها أنا وقد التقيت توفيق الحكيم في باريس بفضل مبادرة المفكر والأستاذ والصديق أنور عبد الملك وفي داره الباريسية، وقضيت بصحبته ثلاث ساعات لا تنسى أمطرته خلالها بكل ما تراكم في رأسي من تساؤلات وملاحظات حول ما كتبه من روايات ومسرحيات وما أبداه من آراء؛ ها أنا ذا أجد نفسي في حضرة المرأة التي أحبها طه حسين، والمرأة التي رافقت طه حسين في همومه وهواجسه ومعاركه وأفراحه ورضاه وغضبه، حتى اللحظة الأخيرة ... ها أنا ذا في حضرة هذه السيدة التي لم يكتب لي أن ألتقي زوجها - بل سمعته ذات يوم عن بعد وهو يلقي محاضرة على مدرج جامعة دمشق، الذي كان حافلا عن بكرة أبيه بكل ما كانت دمشق وقتئذ تضمه من رواد في الأدب وفي التاريخ وفي الإسلاميات وفي النقد - تستقبلني بابتسامة مبتهجة. وأعترف ساذجا بتأثري من هذا اللقاء الذي يتاح لي مع أقرب الناس إلى عميد الأدب العربي الذي كان يبدو لي مقيما في سماء عسيرة المنال. لكن مؤنس ما لبث أن أعلمني أن زوجته هي أيضا حفيدة أحمد شوقي، أمير الشعراء، الذي حفظنا - تلامذة وطلبة - أشعاره عن ظهر قلب، نحن السوريين، والدمشقيون منهم خصوصا، عندما انبرى في قصيدته الرائعة يغني دمشق إثر قصف الفرنسيين لها عقابا لأهلها على مطالبتهم بالاستقلال. أعترف أنني كنت كالطفل الصغير، مبهورا أمام هذه الأسرة الصغيرة التي رحل عنها من كان سببها وسبب وجودي في دارها الباريسية، تتزاحم في رأسي الذكريات والكتب والمقالات التي كنت أتابعها منذ أن وعيت على القراءة ووقعت على اسمه بين الأسماء التي أغنت قرننا الماضي ومنحته من المعاني ما نفتقد الكثير منها هذه الأيام.
طمأنت السيدة سوزان القلقة من تقدمها في العمر؛ تخشى أن ترحل عن هذه الدنيا قبل أن ترى هذا الكتاب منشورا بالعربية، التي لم تتقنها على معايشتها عميد أدبها نصف قرن كامل. أصرت أن ينشره آنئذ الناشر الذي نشر كتب زوجها، لا الذي
1
ناپیژندل شوی مخ