وأذكر أننا اجتمعنا يوما في بيت صديق لنا وكان عنده ضيف من أعضاء حزب سياسي كبير، فلما تناول الحديث بعض المسائل العامة تدفق الأستاذ علي المصري حانقا يتهم فيه زعماء الحزب بأشنع التهم حتى أحرج الضيف وجعله يخرج من البيت غاضبا. وكثيرا ما كان يحرجني في مواقف كثيرة أخرى؛ إذ كان لا يعبأ بالأصول المرعية في السلوك، فقد يعرج في الطريق على بائع عرقسوس متجول ليشرب كوبا مثلجا إذا شعر بأنه عطشان، كما قد يعرج على دكان بائع أثاث قديم ليشتري آنية محطمة أو قطعة من نافذة مهشمة أو قنديلا من النحاس تعلوه طبقة كثيفة من الصدأ. ولست أذكر أني رأيته يوما عابسا أو غاضبا، وكان دائما عظيم الأمل في المستقبل. لم يشعر يوما بالقلق لأنه مفلس، بل كان يؤمن بأن رزق الغد سوف يأتي. ولم يشعر باليأس من صلاح أحوال الناس، بل كان يعتقد أن الأمور سوف تتغير. كان مؤمنا بأن في الجو ثورة لا بد من انطلاقها في يوم من الأيام؛ لأنها أصبحت ضرورة لازمة، فإذا سألته عن الأسباب التي تدعو إلى ذلك الاعتقاد تبسم وهز كتفه قائلا: «سوف ترى.»
وقلت له يوما على سبيل المزاح: إن مرسمك هذا يذكرني بهياكل الجثث في المتحف.
فاتسعت ابتسامته وأجاب قائلا: لأنك لا ترى الأرواح التي ترفرف فوقها.
وكنت في يوم من الأيام عنده وهو يرسم إحدى لوحاته، وكانت تشبه لوحاته الأخرى في منظرها، فكل ما فيها محطم مهلهل متهدم، كانت تمثل تلا من الأطلال في أعلاه دار متهدمة ليس فيها سوى جدار واحد قائم إلى اليمين مستند إلى مئذنة مسجد صغير. وإلى الجهة الأخرى كوخ صغير تقف عند بابه طفلة صغيرة تشبه الأطفال المساكين الذين يقدم لهم قطع النقود والحلوى في الحارات المجاورة للمرسم. كانت جميلة الصورة كأنها ملاك، غير أنها في ثياب ممزقة وتقف حافية القدمين. وأمام الكوخ شيخ كبير السن تبدو على وجهه علائم القناعة والحزن والطيبة، وهو يتحامل على نفسه ليرمم جدار الكوخ المتداعي للسقوط.
فجلست أتأمل الصورة وأنا خاشع، وامتلأ قلبي ظلاما من ألوانها القاتمة التي لا يتخللها شعاع مشرق إلا في وجه الطفلة الصغيرة. ولم أدر كم مضى علي من الوقت وأنا أتأمل الصورة وأتحدث إلى نفسي صامتا، فلم أنتبه إلا على صوت أذان المغرب الذي انطلق من المسجد الأثري المجاور. ورأيت صاحبي يقف مصغيا إلى صوت الأذان في اهتمام، حتى إذا ما انتهى رفع «فرشته» وأضاف بها بعض لمسات إلى صورة المئذنة فجعلها تشبه منارة تبعث شعاعا خافتا مترددا يجاهد في اختراق ضبابة رقيقة من الغبار المتصاعد من تلك الأطلال.
وشعرت برغبة شديدة في أن أحدث صاحبي عن الصورة، ولكنه كان منصرفا إلى إضافة لمسات جديدة إلى الضوء المنبعث من المئذنة.
فقلت له مداعبا: أراك ترسم صوت الأذان يا صديقي.
فالتفت إلي بابتسامته قائلا: ولم لا؟
فقلت له في اهتمام: ألا تخبرني عن معنى هذه الصورة؟
فضحك قائلا: المعنى دائما؟
ناپیژندل شوی مخ