إننا نعيش دون شك في عصر الآلة، بل إن عصر الآلة ليرجع، على أقل تقدير، إلى أكثر من قرنين من الزمان؛ فلماذا لم يبدأ تأثير هذه النزعة الآلية في الظهور بصورة واضحة إلا في القرن العشرين، مع أن عصر الصناعة نفسه، وعصر سيادة النزعة الآلية قد بدأ منذ أواسط القرن الثامن عشر على الأقل؟ قد لا يرى البعض في هذا الفارق الزمني إلا مظهرا من مظاهر تأخر الظواهر الحضارية في الاستجابة للتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية. ولكن حقيقة الأمر هي أن التعقيدات الآلية الكفيلة بالتأثير في فن كالموسيقى وكذلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي مهدت الأذهان لقبول أشد التجديدات تطرفا، لم تظهر بوضوح إلا في القرن العشرين. وهذا هو السبب الحقيقي لذلك التأخر الظاهري في استجابة الموسيقى لنداء الآلية، ذلك النداء الذي سبقتها في الاستجابة إليه كثير من علوم الإنسان وفنونه.
ففي تلك الفترة الغريبة من فترات تاريخ الفن؛ أعني في الربع الأول من القرن العشرين، ظهرت أول دعوة إلى صبغ الفن الموسيقي بصبغة متأثرة بالنزعة الآلية. وكان على رأس أصحاب هذه الدعوة جماعة أطلقت على نفسها اسم «جماعة المستقبليين» في إيطاليا، وأبرزهم «لويجى روسولو» و«باليلا براتيلا»؛ ففي عام 1913م بعث الأول إلى الثاني برسالة حوت خلاصة آرائه، وعدت وثيقة لهذه المدرسة الفنية، حتى سميت ب «بيان المستقبليين»؛ في هذه الرسالة قال روسولو: «لقد ولد الضجيج في القرن التاسع عشر، باختراع الآلات. واليوم أصبح الضجيج ظافرا، وكتبت له السيادة على حواس الإنسان ... فنحن نزداد اقترابا بالتدريج من موسيقى الضجيج ... وعلينا أن نحرر أنفسنا من ربقة هذه الحلقة الضيقة من الأصوات الموسيقية الخالصة، وأن نغزو تلك الأرض المترامية الأطراف إلى ما لا نهاية، أرض الأصوات ذات الضجيج.»
وختم روسولو بيانه بقوله: «على موسيقيي المستقبل أن يوسعوا على الدوام ميدان الصوت ويزيدوه ثراء ... فلنطلب إلى موسيقيينا الشبان، ممن يتصفون بالجرأة والعبقرية، أن يصغوا بانتباه إلى كل أنواع الضجيج؛ حتى يمكنهم أن يدركوا الإيقاعات المتنوعة التي تتألف منها، ويميزوا بين أنغامها الرئيسية والثانوية ... ولقد كان اقتناعي بأن الجرأة تجعل كل شيء مشروعا وممكنا، هو الذي دفعني إلى تصور ذلك التجديد الهائل للموسيقى، عن طريق فن الضجيج.»
مثل هذه الأفكار قد تبدو جنونا مطبقا، وهي بالفعل كانت كذلك في نظر الكثيرين، بدليل أن استقبال جمهور باريس لحفلات هؤلاء «المستقبليين» الموسيقية بما فيها من قرقعات وصدمات وهمسات وصرخات، بلغ من العداء حدا اضطر معه «المجددون» الإيطاليون إلى تقسيم أنفسهم فريقين: فريق يواصل أداءه على المسرح، والآخر يصد هجمات الجمهور الساخط ويشتبك معه في معارك حدثت فيها بالفعل بعض الإصابات!
غير أن هذه الاتجاهات تؤخذ في كثير من الأحيان مأخذ الجد في عصرنا هذا، وتقدم لتبريرها نظريات جمالية توهم المرء أحيانا بأن في الأمر فنا جديدا يستحق الاهتمام والتقدير.
ولقد بلغ هذا الاتجاه قمته في «الموسيقى الإلكترونية» التي تعتمد تماما على إمكانيات الأجهزة الصوتية الحديثة، ولا سيما آلة التسجيل المغناطيسي، في إنتاج أنواع جديدة غير معروفة من قبل من المؤلفات الموسيقية. وتستطيع أن تجرب بنفسك صورة بسيطة لما يقوم به هؤلاء الموسيقيون إذا سجلت صوت صفير القطار، مثلا على شريط بسرعة معينة، ثم أعدت سماع هذا التسجيل بسرعة مختلفة، عندئذ تكتشف صوتا جديدا مختلفا كل الاختلاف عن الصوت الأصلي، وقد يكون مختلفا عن كل ما تسمعه في البيئة المحيطة بك من الأصوات. وما هذا، كما قلت، إلا مثل شديد التبسيط لإمكانيات الشريط الإلكتروني الصوتية؛ فقد استطاع أصحاب هذا الاتجاه أن يستخلصوا منه، بطريقة آلية، أصواتا من كل نوع، وذلك بشطر الشريط، ورفع الأصوات وخفضها إلكترونيا، والجمع بينها وبين أصوات آلات موسيقية مألوفة، وتأليف مقطوعات يشترك فيها الشريط التسجيلي مع الأوركسترا. كانوا في هذا كله يبحثون، كما يقولون، عن اللاشعور، ويتغلغلون صوتيا في عالم مجهول حافل بإمكانيات لا حد لها.
وقد تميزت في هذه الموسيقى الإلكترونية مدرستان: مدرسة كولونيل، بألمانيا، وعلى رأسها «شتوكهاوزن»، ومدرسة نيويورك، وعلى رأسها «جون كيج». أما الأول فقد بلغ به التحمس لتجديداته حدا جعله يؤكد أن قاعات الموسيقى الحالية لا تصلح ل «عصر الفضاء» الذي نعيش فيه، وأن من الواجب أن تأتي الموسيقى في المستقبل إلى المستمع من ستة اتجاهات: من أمامه وخلفه وفوقه وتحته ومن الجانبين. وهكذا وضع تصميم مسرح يجلس فيه المستمعون معلقين في رصيف مركزي، وكأنهم في جزيرة تحيط بها الأصوات الإلكترونية من كل جانب. وأما زميله الأمريكي فهو أقدم منه عهدا في الإغراب؛ إذ بدأ يتحدث منذ العقد الرابع من هذا القرن عن الإمكانيات الصوتية الهائلة التي لم يستطلعها الإنسان أو يقترب منها بعد، ويتصور الموسيقى على أنها طريقة للإصغاء إلى إيقاع نفس هذه الحياة التي نحياها؛ فيكفي أن يستمع الإنسان وهو يسير في شوارع مدينة حديثة، أو يعمل في مصنع حديث، إلى الأصوات المحيطة به من كل جانب، ليدرك أن العصر الذي نعيش فيه يأتينا بأصوات وإيقاعات لم تعرفها العصور السابقة قط، وأنه بالتالي يقتضي موسيقى تختلف عن كل ما عرفته الأذن البشرية من قبل.
ويتخذ هذا التجديد الموسيقي المتطرف شكلا ثالثا يبدو مضادا تماما للشكلين السابقين: ذلك هو ما يسمى بالموسيقى العينية
concrete
وهو نقل الأصوات الطبيعية مباشرة، دون أي تعديل أو تهذيب. وإنه لمن الغريب حقا أن يسير أنصار التجديد المتطرف في مثل هذه الاتجاهات المتعارضة في آن واحد؛ أي أن يستطلعوا إمكانيات الآلات الإلكترونية، وهي أعقد ما وصل إليه الإنسان من المخترعات، وينقلوا في الوقت ذاته أصوات الطبيعة في بساطتها وبدائيتها وسذاجتها. غير أن هذا الجمع بين الأضداد ليس بالأمر المستغرب؛ فأحدث اتجاهات الرسم والنحت؛ أعني تلك التي ظهرت في ظل أشد درجات التعقيد، تذكر المرء بالرسوم والتماثيل البدائية في الكهوف القديمة، أو تبدو في بعض الأحيان أشبه بأعمال طفل ذكي خصب الخيال. وموسيقى «الجاز» التي تزدهر بدورها في أشد مجتمعات البشر تعقدا وتصنيعا، تزخر هي الأخرى بإيقاعات الغابة وصرخات الإنسان البدائي، والأمثلة كثيرة على أن الإنتاج الحضاري كثيرا ما يدور دورة كاملة بحيث تتلاقى أعقد النهايات بأبسط البدايات في مركب واحد متكامل. وهكذا ظهرت «الموسيقى العينية» المستمدة من تلك الأصوات التي نصادفها في حياتنا اليومية المعتادة. ومن المعروف أن كثيرا من الموسيقيين كانوا يستعينون بأصوات طبيعية أو محاكية للطبيعة في مؤلفاتهم، كأصوات الطيور في سيمفونية بيتهوفن السادسة، وفي مقطوعة «أشجار الصنوبر في روما» لرسبيجي، وغيرها من الأصوات الطبيعية في سيمفونية «لعب الأطفال» لهايدن. غير أن الأصوات الطبيعية تقوم في الموسيقى العينية المعاصرة بدور مختلف كل الاختلاف؛ فهي ليست عنصرا عابرا في القطعة الموسيقية، وإنما هي العنصر الأساسي فيها، وهي المحور الذي يدور حوله التأليف الموسيقي، بحيث يتعين على الفرقة الموسيقية أن تضم، من أجل أداء هذه الأصوات، مجموعة غريبة من الأدوات، كالمطارق والصفائح الفارغة والصفارات والأواني ... إلخ.
ناپیژندل شوی مخ