وتكاد هذه الطريقة في التأليف الموسيقي تقرب من الاختفاء اليوم؛ فالمؤلفون الموسيقيون يقصرون همهم على الوسائل، لا على الغايات - وهدف كل منهم هو أن يبحث عن مادة صوتية موسيقية جديدة، دون أن يفكر في كيفية الاستفادة من المواد الهائلة التي توافرت للموسيقى الحديثة بعد كشوفها الأخيرة.
ولقد أدى هذا الاهتمام المفرط بالوسائل إلى أن غابت عن أذهاننا فكرة المعنى النهائي للإنتاج الموسيقي؛ ففي إزالة شونبرج لكل حاجز بين أنصاف الأصوات، اختفى العنصر الذي يضفي «النور» على القطعة الموسيقية؛ فحين تصبح درجات السلم كلها متساوية الأهمية، تكتسي كل أصواتها لونا باهتا غامضا لا يميز بين الواحدة منها والأخرى؛ فأساس التنوع في ألوان الموسيقى السائدة في القرن التاسع عشر، هو اتباعها نظام سلم تتفاوت درجاته أهمية، مما يؤدي إلى أن تتخذ حركة كل قطعة معنى معينا يمكن تغييره كما يشاء خيال الفنان. والواقع أن مساواة شونبرج بين الأصوات الكروماتيكية كلها، يذكرنا بفكر مثل فكر برجسون؛ إذ يرفض الموسيقي تقييد حركة التحول الموسيقية الحرة في مقولات أو صور أولية سابقة، تفرض على التدرج النغمي وتتحكم فيه؛ ففي تلك الموسيقى تحول دائم لا يعوقه العقل في شيء. غير أنه إذا كانت هذه الصيرورة المستمرة جائزة في ميدان التفكير الفلسفي، فهي في ميدان الموسيقى تغيير خطير للعناصر الأساسية في لغتها، وإبدال حروف جديدة بحروفها المألوفة، وإن كنا لا نعلم يقينا ما إذا كان التأثير الصوتي لمجموعات هذه الحروف الجديدة يؤدي إلى جمل موسيقية أعمق في معناها من الجمل القديمة أم لا. وعلى أي حال فالموسيقى الحديثة - باعتراف مبدعيها - لا تعبيرية، فإن ظل المرء يسعى إلى أنغام ذات محتوى نفسي معين، فلن يجد في تلك الموسيقى شيئا، وإنما عليه أن يحصر إعجابه الفني بها في نطاق نغمي خالص لا تشوبه أية شائبة نفسية. والنتيجة المباشرة لهذا أن تصبح الموسيقى ضجة مسلية، فيها توثب وحياة، ولكنها لا تعبر عن شيء. وهذا هو حقا ما تشعر به وأنت تسمع كثيرا من قطع سترافنسكي مثلا؛ فهي أشبه بالطبيعة في سذاجتها السعيدة، وفي عدم اكتراثها كل معنى ومدلول يضفيه عليها عقل الإنسان؛ ومن هنا سميت قطعة مثل «طقوس الربيع»، باسم «مزامير الأرض »، وليس في هذا ضير على تقديرنا لمثل هذه الموسيقى، غير أن ما يهمنا هنا هو أن دلالة الفن الموسيقي قد اختلفت، وأصبح التعبير عنصرا غريبا عنه لتحل محله كشوف تنتمي - قبل كل شيء - إلى مجال الصوت الخالص.
ولسنا نود أن نطيل في وصف مظاهر استغلال هذا الانقلاب الموسيقي استغلالا سيئا، وإنما يكفينا أن نشير إلى ما شاع في الموسيقى الحديثة من العودة إلى الإيقاعات البدائية وإلى سيادة آلات الدق والطبول على حساب بقية الآلات، إلى ما عمد إليه الأمريكيون من الإفراط في الغرابة والشذوذ، كأن يؤلفوا «كنشرتو» للآلة الكاتبة مع الأوركسترا، وقطعا موسيقية تطلق في وسطها طلقات نارية، أو تأليف قطع راقصة آلية، تؤديها الآلات الحالية عن طريق الكهرباء لا عن طريق العزف الإنساني عليها. ونحن هنا لا نرمي إلى الحط من قدر الموسيقى البدائية لذاتها، بل نكتفي بالإشارة إلى أنها وضعت في مجتمع معين لأجل ذلك المجتمع ذاته، وإلى أن إنكار التقدم الفني خلال عشرات القرون والعودة إلى حالة بدائية أمر لا مبرر له على الإطلاق بعد تطور الذوق الموسيقي كل هذا التطور. أما العزف الآلي فتجربة ثبت إخفاقها؛ إذ إن كل ما وصلت إليه الآلة هو أن تحفظ فن الإنسان وتسجله، كما في الأسطوانات الموسيقية، أما أن تحل محل الإنسان في العزف، فهذا ما يؤدي بالفعل إلى تدهور لا إلى تقدم؛ فالموسيقى، قبل كل شيء، حديث إنسان لإنسان.
كذلك أود أن أشير من بعيد إلى ما أدت إليه الموسيقى الحديثة من تعقيد متكلف؛ ففي بعض موسيقيي اليوم نزعة إلى التعقيد لذاته، يخفون بها عجزهم عن الابتداع والابتكار، ويغرقون السمع في خضم من التركيبات العويصة، حتى لا يكشف افتقارهم إلى الهدف الصحيح؛ ففي هذا الغموض المتعمد يعجز المرء عن الحكم على العمل الفني حكما صادقا وسط تعقيد الأداء، وما على المؤلف إلا أن يضيف إلى تيارات الموسيقى طبقات أخرى عديدة، ويأتي بما يخرج عن المألوف في الهارموني، ليشغل السامع بغموض القواعد عن تقدير قيمة عمله الفني كاملا. •••
ولهذا البحث هدف لا بد من إيضاحه بعد عرض مظاهر الانقلاب الموسيقي، هو عدم إمكان الحكم على ذلك الانقلاب على نحو نهائي ثابت؛ ففي التجديدات الموسيقية الجزئية السابقة، كنا ننعت من يتمسك بالقديم وينكر الكشوف الجديدة بالتحجر والجمود؛ لعجزه عن مسايرة التطور. أما في هذا الانقلاب الحديث الشامل، فليس لنا أن نصف بالعجز من لم يتابعه؛ إذ إن من صفات الانقلابات التي يمكن متابعتها، أن تتدرج على نحو معقول. وليست الثورة الفنية كالثورة السياسية تشتعل فجأة (وإن كان لهذه الأخيرة ذاتها مقدماتها البعيدة في كل الأحوال)، بل تتغير القواعد تدريجيا كلما تهيأت لها الأذهان. وقد نصف الانقلاب الموسيقي الحديث بأنه مفاجئ وعنيف، وبأن المقدمات السابقة عليه لم تمهد له تمهيدا كافيا؛ فإذا شئنا أن نتجاوز عن هذا القدر من المفاجأة، ونحاول مسايرة ذلك الانقلاب، فليس لنا، مع هذا، أن نلوم من لم يتابعه بنفس سرعته. وتلك صفة يتميز بها التطور الأخير وحده للموسيقى. أما التطورات السابقة فكانت كما قلنا، متدرجة لا عذر لمن لم يسايرها.
وأخيرا، فقد يلمس المرء هنا قدرا من عدم الرضا عن بعض الاتجاهات المتطرفة في الموسيقى الحديثة، ويتساءل: ما الحل إذن؟ الواقع أن فترة الانقلاب العنيف يجب أن تنتهي؛ فقد فتحت أمامنا الآفاق الجديدة، ولم يستغل الموسيقيون بعد كل إمكانياتها حتى يحاولوا تجاوزها. ومهمة الموسيقى الآن هي أن تقوم بعملية أغفلها ذلك الانقلاب عامدا، وهي إدماج الكشوف الجديدة في التراث القديم؛ فقد اكتفينا بما اكتشفناه، وأصبح علينا أن نجني ثمار هذه الكشوف بقدر طاقتنا، ونقوم بعملية تمثيل تهضم تلك المادة الجديدة وتدمجها بكياننا الموسيقي الكامل. وهنا نرى أنفسنا نسير في اتجاه مماثل لذلك الاتجاه المجيد الذي سار فيه من قبل أقطاب الموسيقى الكلاسيكية، ولكن مع سعة في المادة التي أصبحت في متناول أيدينا. وهنا أيضا نجد أسماء وضاءة لامعة تنير لنا الطريق الذي يجب أن نسير فيه: أسماء ديبوسي ورخمانينوف وسيبيليوس وبروكوفييف وشوستاكوفتش، الذين عرفوا كيف يمزجون كشوفهم بالتقاليد النافعة الماضية، ويقدمون إلى العالم فنا مبتكرا لا ينفصل عن التطور الموسيقي الغابر.
محنة الموسيقى الغربية المعاصرة1
ما زالت الأعمال الموسيقية الكبرى الماضية تحتل الجزء الأكبر من برامج الحفلات الموسيقية الغربية، ويتكرر عزفها إلى الحد الذي يؤدي إلى الإضرار بها أحيانا. ولكن إذا شكا المستمع من هذا التكرار، فلن يجد في الموسيقى المعاصرة ما يحل محل الأعمال الماضية المجيدة. وهكذا يظل المستمع في معظم الأحيان مفتقرا إلى شيء يجمع بين صفتي الجدة والجودة معا، ويتعين عليه أن يقوم باختيار غير حر يضطر فيه آسفا إلى التضحية بإحدى هاتين الصفتين.
ذلك لأن الموسيقى الغربية المعاصرة التي تقدم إلى المستمعين على أنها مجددة، لا معنى لها، في معظم الأحيان، بالنسبة إلى المستمعين الذين توجه إليهم هذه الموسيقى. والذي يحدث عادة هو أن هؤلاء يصفقون لها بعد انتهائها في أدب، ولكن سرعان ما ينسون عنها كل شيء، ولا يبقى في أذهانهم عنها إلا ما تردده فئة قليلة من دعاتها المتحمسين، الذين لا يفلحون أبدا في إقناع الأغلبية الساحقة بوجهة نظرهم. وعلى قدر ما يزداد اليوم عدد أولئك الذين يشتغلون بالتأليف الموسيقي، وتسود مئات الألوف من الصفحات ذات الأسطر الخماسية، فإن الإنتاج نفسه هزيل، وتكون نتيجة هذا الانتشار الكمي انحدارا كيفيا يبدو أمرا لا مفر منه.
فما هي علة هذا الوضع السائد في الموسيقى المعاصرة؟ إن السبب الأول هو تزايد انعزال الموسيقي «المجدد» عن الجمهور؛ فالمجددون، من أصحاب التجارب والمغامرات غير المألوفة في عالم النغم، يشعرون - صوابا أو خطأ - بأنهم أقلية مضطهدة في مجتمع لا يقدرهم، وينطقون لغة لا تتذوقها آذان مستمعيهم، حتى المثقفين منهم. وكلما اشتد لديهم هذا الشعور بالاضطهاد، دفعهم إلى المزيد من الإغراب في التأليف، ظانين أن افتقار الناس إلى فهم أعمالهم دليل على عظمة هذه الأعمال؛ إذ إن كبار الفنانين في الماضي كانوا، حسب اعتقادهم، لا يلقون عادة من الجمهور إلا التجاهل (وهي قضية باطلة)، على حين أن الأجيال المقبلة هي وحدها التي ستقدر هؤلاء المجددين حق قدرهم (وهو أمر بعيد الاحتمال).
ناپیژندل شوی مخ