التي لا يهتدي فيها عقل، ولا تستطيع أن تستقر فيها نفس، والتي لا يعرف لها مدى تنتهي إليه من أي ناحية من نواحيها؟ ثم أرأيت إلى هذا الرجل النحيل الضئيل العاجز الضعيف قد دفع إليها دفعا، وألقي فيها إلقاء، ثم لم يجد منها مخرجا، ولم يتبين فيها طريقا؟ ثم أرأيت إليه حائرا ضالا في هذه الحيرة، شاعرا أقوى الشعور وأشده بما هو فيه من جور عن القصد، وضلال عن الصراط المستقيم، سائلا نفسه في غير طائل، سائلا الناس في غير غناء، سائلا نجوم السماء وحيوان الأرض وجمادها دون أن يظفر منها كلها إلا بجواب واحد واضح كل الوضوح جلي كل الجلاء، ولكنه غير مقنع، وهو أن لهذا العالم خالقا حكيما، ولكن ما كنه حكمته، وما غايتها، وكيف نلائم بينها وبين سيرتنا؟ وكيف نلائم بينها وبين آرائنا؟ وكيف نلائم بينها وبين أقوالنا؟ هذه هي الأسئلة التي لم يظفر لها بجواب من الناس، ولا من كواكب السماء ونجومها، ولا من حيوان الأرض وجمادها.
وأظن أن العلة الحقيقية التي شقي بها أبو العلاء خمسين عاما إنما هي الكبرياء، الكبرياء التي دفعته إلى محاولة ما لا يطيق، وإلى الطمع فيما لا مطمع فيه، وإلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه. أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله، وأسرف أبو العلاء في الثقة بهذا العقل، ورفض كل شيء سواه.
9
فالعقل مهما يكن جوهره، ومهما تكن طبيعته إنساني أي محدود، محدود الطاقة محدود المعرفة كغيره من ملكات الإنسان، فالغريب أن يتخذ العقل المحدود سبيلا إلى ما لا حد له، وأن تتخذ هذه الآلة القاصرة المتواضعة سبيلا إلى بلوغ ما لا تستطيع بلوغه. والغريب أن يشعر أبو العلاء بأنه لا يستطيع أن يرقى إلى النجوم بجسمه، وبأنه من الحمق أن يتكلف هذا الرقي.
وكيف صعودي إلى الث
ريا بلا سلم
وأن يشعر أنه لا يستطيع أن يبلغ بعقله كنه هذه الحكمة العليا التي امتاز بها الخالق الحكيم، ولكنه مع ذلك ينفق حياته مجاهدا في استكشاف هذه الحكمة، والوصول إلى أسرارها، ما باله لا يحاول الرقي إلى الثريا ما دام لم يجد إليها سلما، ثم يحاول الرقي إلى حكمة الله مع أنه لم يجد إليها سلما؟ ما مصدر هذا التناقض الذي جر على أبي العلاء وعلى أمثاله ما صب عليهم في حياتهم من شقاء؟ مصدره فيما أعتقد هذا الغرور الذي يخيل إلينا أن العقل ليس شيئا إنسانيا، وإنما هو جوهر ممتاز قد أهبط إلى هذا الجسم فأقام فيه ضيفا، فهو إذن ممتاز في جوهره من الجسم، قادر على ما لا يقدر الجسم عليه، فإذا عجز الجسم عن أن يرقى إلى النجم بلا سلم فلن يعجز العقل عن أن يرقى إلى السماء بلا سلم. أليست الفلسفة قد زعمت لنا، ولم تنكر عليها الديانات ما زعمت، أن العقل قبس هبط من الملأ الأعلى وهو عائد إليه؟ وما دام العقل قد هبط من الملأ الأعلى فما يمنعه أن يتصل به أثناء هذه الحياة؟ وقد زعم بعض الفلاسفة، وزعم بعض المتصوفة أن العقل يتصل بالملأ الأعلى أثناء الحياة بين حين وحين، وزعموا أنهم قد جربوا ذلك، وشهدوا ما لم يشهده غيرهم من الناس، فما بال أبي العلاء لا يحاول أن يتصل بهذا الملأ الأعلى ليعرف كنهه، ويبلو أسراره، وما باله لا ييأس أشد اليأس، ولا يسخط أعظم السخط إذا لم يبلغ من ذلك ما أراد، وما باله إذن لا يكذب أولئك الفلاسفة وهؤلاء المتصوفة، ولا يسخر منهم؟ ومما يزعمون لأنفسهم من التفوق والامتياز؟ الكبرياء إذن هي مصدر المحنة العلائية، وهذه الكبرياء جاءته من تصوره للعقل، وغلوه في الإكبار من أمره .
10
ولو قد تواضع أبو العلاء في حياته العقلية الفلسفية كما تواضع في سيرته العملية، ولو قد عرف أبو العلاء لعقله حده، ووقف به عند طاقته كما عرف لجسمه حده، وكما وقف بجسمه عند طاقته؛ لجنب من هذه المحنة شرا كثيرا، ولاستراح من عذاب أليم، لا نتصوره لأننا لا نعاني ما عاناه أبو العلاء من جهد، ولا نسمو إلى ما سما إليه أبو العلاء من غاية. لو فعل لاستراح وأراح. هذا حق، ولكن نحن ما خطبنا؟ أكنا نظفر باللزوميات، وبما نجد في قراءتها من هذا المتاع العقلي المؤلم المر الذي نحبه ونستعذبه برغم ما فيه من ألم ومرارة؟
هوامش
ناپیژندل شوی مخ