فالانتحار ليس في صفات الإنسان الفطرية ما يحمل عليه، ولا هو معروف عند الإنسان المستغرق في الهمجية، بل هو طارئ عليه من نوع التربية والتعليم. ويلزمنا أن نصعد إلى عصور الجاهلية الفاصلة بين عصر التوحش وعصر التمدن، بمعنى أنها آخر الأول وأول الثاني؛ حتى نجد بعض حوادث منه من وقت إلى آخر بعيد، وفي ظروف خصوصية نادرة. فلا يخفى أن الصفة الأولى التي تنبهت في الإنسان في هذه العصور، أي عصور الجاهلية، هي الأنفة؛ ولذلك كانت حوادث الانتحار في هذه العصور مقتصرة على أمر واحد ليس فيه شيء من صغر النفس أو قلة العقل كما نرى اليوم، كأن يقع الإنسان في أسر عدوه، أو يخشى الوقوع في أسره وقد سدت في وجهه سبل الدفاع، وهو هالك في الحالين، فيفضل أن يقتل نفسه بيده ليحرم عدوه من لذة الإيقاع به، وهو في كل ذلك لم يتخط حب الذات؛ فمدافعته عن نفسه يحمله عليها حب ذاته، وقتلها بيده لئلا تهان بيد عدوه، يحمله عليه حب ذاته أيضا.
ثم جاء عصر التمدن بما خالطه من التعاليم المتباينة والمبادئ المتناقضة، من اجتماعية ودينية وأدبية، فقوى في الإنسان عواطف وأمات عواطف وحول عواطف؛ فقوى في الإنسان الخيال، وأضعف فيه الثقة بالنفس والاعتماد عليها، وصرفه عن الحال بالمآل، فصغرت الحياة الدنيا في عينيه حتى احتقرت الحياة المادية، وعظمت الحياة الأخرى حتى صارت تفضل عليها الحياة الأدبية.
ولم يقتصر الإنسان على بسيط هذه المبادئ، وإلا لم يكن الشر عظيما، خصوصا إذا كانت النتائج متفقة معها، بل وقع تناقض كلي في تربيته وتعاليمه. فبعد أن بذلوا الأبدان إلى حد التقشف، ورفعوا الآمال إلى مقام الأماني؛ عادوا فرفهوا الأبدان إلى حد الترهل، مع التصرف بالمبادئ الأدبية بما لم يضعف من قوتها، بل حول وجهتها وأفسد غايتها، فضعف الجهاز العصبي المستولي على العواطف بالتربية المرهلة للأبدان، وتمادي العقل في الخيال حتى تناهى في الضلال، وكثر التناقض بين الحياة النظرية والحياة العملية، فكثر الانتحار بين الموسرين؛ لأسباب أدبية تهيج بها العواطف، متطرفين فيما تربوا عليه من أن قتل الآمال لأشد من قتل الأجساد. وكثر بين الفقراء لأسباب اجتماعية تضيق عليهم المذاهب، فعمدوا إليه متعزين بقول الشاعر:
والموت أطيب من حياة مرة
تقضى لياليها كقضم الجلمد
ولا يفهم من ذلك أن الانتحار من آفات التمدن بدليل ما نراه اليوم، بل التمدن الصحيح ينبغي أن يزيل أثره بالكلية من المجتمع البشري بإصلاح التربية وتقويم المبادئ، بل هو من آفات تمدننا الحديث؛ لما فيه من النقص والتذبذب في كل شيء. فنحن حقيقة في دور من أدوار ارتقاء الإنسان، ينبغي أن يعد في تاريخ المجتمع البشري طور الانتقال. فنحن في هذا الطور لم نبق على همجيتنا البسيطة، ولم نبلغ مقام التمدن الصحيح. ولقد مر علينا في هذا الدور قرون ونحن نتقلب متذبذبين بين الوقوف والتقهقر واستئناف السير، وسيمر علينا قرون كثيرة أيضا قبل أن نبلغ هذا المقام. وأدوار الانتقال في حياة الجموع كما في حياة الأفراد شديدة الخطر؛ فكما أن الخطر على حياة الأفراد يشتد في طور انتقال الطفل من الرضاع إلى الفطام وفي التسنين، هكذا الخطر يشتد على حياة الجموع في انتقالها من طور إلى طور، وكثيرا ما يعرض لها في هذا الطور ما يوقف سيرها ويوجب تقهقرها. وتاريخ الاجتماعات البشرية مشحون بالأدلة على أن هذا الوقوف وهذا التقهقر حصلا لها في حياتها مرارا عديدة، فاضطرت أن تستأنف السير. والله يعلم ما يلزم لذلك من الزمان الطويل.
ويطول بنا الشرح لو أردنا أن نبين أوجه النقص في تمدننا الحديث، الذي نتباهى به اليوم كأنا بلغنا به القدح المعلى، وما يعترضه من المخاطر التي يخشى منها على حياة العمران، مما يوجب وقوفه وتقهقره أحقابا طويلة. ولا نطيل الوقوف على هذا التمدن «النيئ» في حياة الأفراد في حركاتهم المصطنعة التي ليس فيها شيء من الرجولة، التي هي منتهى الأدب الحقيقي، كأن يثبت الإنسان رجليه على أطراف قدميه، ويحني رأسه إلى الأمام، ويبرز بعجزه إلى الوراء، ويبسط كفه لا إلى حد العطاء، ويضم أصابعه مبالغة في العياقة، ويمد ذراعيه على زاوية، لا هي بالمنفرجة ولا هي بالقائمة، ويثبت كتفه كأن بها حدورا تؤلمها الحركة؛ يظن بذلك أنه بلغ منتهى الكياسة، وما بلغ به إلا انحطاطه إلى مقام أجداده القرود. أو كأن يقف صنما على كلتا قدميه، ويثبت ساقيه، ويأخذ بعجزه، وجزعه يطول ويقصر، وينحني وينبسط، باسطا كفه بسط المستجدي، مادا يده إلى الأرض، ورافعها إلى رأسه وفمه، مكررا ذلك بسرعة تخطف الأبصار، كأنه يغرف بها شيئا من أحد طرفيه ليضعه في الطرف الآخر، وما يغرف بها إلا جهله ليدل به على قلة عقله (إشارة إلى السلام الإفرنجي والتركي).
وهذا التصنع الذي يعده بعضهم من التمدن، ويا حبذا التوحش عنده، لا يقتصر على حركاتهم فقط، بل يتناول حديثهم ومعاملاتهم وصداقتهم، إن صحت أن تسمى صداقة، وسائر آدابهم. فجميعها لا يتجاوز حد التكلف، ومبدؤهم فيها التبطن، على حد قول المثل الفرنساوي: «جعل الكلام لتضليل الأفكار.» أو على حد قول الشاعر العربي:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
ناپیژندل شوی مخ