ولئلا يذهل الرجل عنه فلا يوفيها حقوقها، فيسوء مصيرا، وكل ذلك حرصا على انتظام العائلة البشرية، وتحسن حال الإنسان في العمران بمعرفة كل من الرجل والمرأة حده فيقف عنده. وكنت أنتظر من السيدات أن يعددنني بذلك نصيرا لهن وخير نصير.
وصاحبا كالزلال يمحو
صفاؤه الشك باليقين
وأن أرى منهن تصويبا ينشطني في الدفاع عنهن إذ أدخل الموضوع من أبوابه؛ لأن المدافع عنهن في غير أساليب الصواب يكون لهن شر نصير. ولكن لا أعلم كيف أقابل حضرات السيدات اللائي تصدين للرد علي زاعمات أنهن وجدن في مقالتي مطاعن، ففوقن نحوي سهام اللوم والتعنيف. ولولا الخوف من أن يستحكم هذا الظن في أذهان جمهورهن بمطالعتهن مقالات نصيراتهن، ويتناسين حقيقة مقالتي لتقادم عهدها، فينصرفن إلى الوهم بأني متحامل فيها عليهن؛ لاقتصرت على مقابلتهن بالشكر لقاء إطنابهن في مدحي، واستغنيت عن هذا الإيضاح الذي لا أرى، والحالة هذه، بدا منه، ولاكتفيت مئونة الرد على اعتراضاتهن؛ لقيام بعضها على الوهم، وسقوط البعض الآخر من نفسه بمراجعة نفس مقالتي. (1)
أنكرت علي حضرة السيدة الفاضلة م. أ. ي قولي: «إن الفرق بين المرأة والرجل في القوى إنما هي من أصل الفطرة.» وذهبت خلافا لي إلى أنه من فرق التعليم والرياضة والعادات، وزعمت أنها تؤيد قولها من كلامي المتناقض، حيث قالت برشيق عبارتها: «أجترئ أن أقول إن بعض أقواله متناقضة. أوليس هو القائل مع العلامة بروكا إن زيادة اتساع الجمجمة في النساء قديما عما هو عليه حديثا كانت «لأن» المرأة كانت في ذلك العهد تقاسم الرجل الأعمال أكثر منها في هذا العهد؟» واستطردت من ذلك إلى القول: «فما المانع من أنه لو دامت لها هذه المقاسمة إلى هذا الزمان لبقيت مثله أو أسمى منه؟» أقول نعم النتيجة لو صحت المقدمة، ونعم الحجة علي لو صح النقل عني، فعفوا أيتها السيدة لم أقل ذلك، وهذا قولي: «الغريب أن نساء الأجيال التي عاشت قبل التاريخ كانت نسبة سعة جمجمتهن أعظم منها في نساء اليوم، قال بروكا: «وهذا يظهر منه «أن» المرأة كانت في ذلك العهد تقاسم الرجل الأعمال أكثر منها في هذا العهد».» لا «لأنها» وهو على حد قولي أيضا بعدما تكلمت عن تقارب الرجل والمرأة تشريحيا في أوائل الحياة، وتباينهما في أواسطها، ثم تقاربهما بعد ذلك: «وهذا الفرق التشريحي يرافقه فرق في القوى العاقلة والأدبية، ومنه يفهم لماذا يشترك الذكر والأنثى بالألعاب في سن الحداثة، ثم يفترقان كثيرا في سن البلوغ، ثم يتقاربان في سن الهرم.» فعلى مقتضى قول حضرتها يجب أن يفهم من هذا القول أيضا أن اقتراب الرجل والمرأة وافتراقهما تشريحيا هو لاشتراكهما وافتراقهما بالألعاب، والمفهوم بالعكس. ولا يخفى ما بين القولين من الفرق في المعنى، وإن لم يكن بينهما إلا زيادة حرف واحد في اللفظ. فمفهوم كلامي نتيجة، ومفهوم كلامها سبب. وهذا الخطأ منها في النقل هو سبب هذا الوهم في نسبة التناقض لكلامي؛ ولضيق المقام أكتفي بالتنبيه إليه لإزالة هذا الوهم، ولا أشك في أنه من حضرتها خطأ سهو .
ولا أنكر بأن التعليم والرياضة والعادات ... إلخ تؤثر جدا في حال المرأة، ويجب أن تستخدم لخيرها، ولكن لا أسلم مطلقا بأنها إذا تساوت فيها مع الرجل ساوته في القوى؛ لأسباب أعدها جوهرية في تكوينها وقابلياتها وواجباتها، هذا إذا كنا نسلم أن القوى والأفعال مرتبطة بتكوين الأعضاء. ألا ترى أن الأشغال التي تعلمها النساء كالرجال وأكثر منهم، كفن الخياطة والطبخ والرسم والموسيقى، لا تستطيع المرأة أن تساوي الرجل فيها، كما قلت في مقالتي السابقة. على أن نفس مساواتها له بالتعليم والرياضة والعادات لو تأملناها جيدا لوجدناها، إلا فيما ندر، ممتنعة عليها من أصل التكوين؛ فطلب المرأة، والحالة هذه، مساواة الرجل فرض مستحيل لا يجوز لها أن تضيع وقتها فيه، وهذا لا يحط من قدرها؛ لأن عليها واجبات أخرى مهمة جدا، إذا أحسنت القيام بها لم تعدم حقوقها في الهيئة الاجتماعية. (2)
اعترضت علي حضرة الفاضلة السيدة ر. ح اعتراضات شتى لا يسعني ضيق المقام إلا أن آتي الجواب عليها اقتضابا لكثرة خصيماتي، ووجوب الرد على كلهن صبة واحدة لئلا يعتبن علي؛ إذ إن السيدات يصفحن عن كل ذنب إلا ما تشم منه رائحة التفضيل بينهن.
قالت إني بحثت في المرأة والرجل بحث الطبيعيين لا بحث أهل النظر، وعابت علي إيرادي بعض أمور عن المرأة أقرب إلى البحث النظري منها إلى البحث الطبيعي، مثل قولي: «إن الرجل يأكل أكثر من المرأة، ولكنها أنهم منه، وإن الذي يمنعها من ارتكاب الجرائم إنما هو خجلها وحياؤها، وحالها من الرضوخ، وعوائدها التي تحجبها، وضعف جسدها، وإنها أحيل من الرجل وأخدع؛ لأنها أضعف منه، والحيلة والخداع سلاح الضعيف.» ولا أنكر بأن من هذه الأمور ما هو أقرب إلى علوم النظر، إلا أني أقول أيضا إني لم ألتزم البحث في الوجه الطبيعي إلا لكي أجعل للوجه النظري مجالا أوسع وقيمة أعظم بتمهيد السبيل له حتى يقل خطؤه ويكثر صوابه؛ إذ لا يخفى أن العلوم النظرية ليست إلا الاستقراء والاستنتاج المبنيين على أمور مسلمة هي عندهم كالحقائق، فكلما كانت هذه الأمور المسلمة أقرب إلى الصواب كان الاستقراء والاستنتاج المبنيان عليها أصح كذلك. وأي شيء أصح من العلوم الطبيعية التي هي في حكمها كالعلوم الرياضية؟ ولذلك كان كثير من أحكام النظر المبني على هذه العلوم حكمه كحكم اليقين. على أن من الأمور النظرية المتقدم ذكرها ما هو مبني على المراقبة والاختبار؛ فقول حضرتها: «فبأي مقياس قاسوا نهامة الرجل والمرأة حتى عرفوا أنها أنهم منه؟» مردود عليه بالقول إنهم قاسوها بمقياس المراقبة، وإن لم يرضها ذلك فبمقياس «الأكل»، ولا أعلم ما الذي ساءها من هذا القول، وهو ليس قولي، بل قول جمهور العلماء المتبحرين في درس طبائع الحيوان ومراقبة أفعاله، وإن لم يقنعها ذلك فنحن نأتيها بتعليل فلسفي ينطبق على هذا القول لعلها تقنع؛ فلا يخفى أن بين عوائد الرجل وعوائد المرأة بونا بعيدا، فالرجل كثير الحركة كثير السعي، والأشغال التي تطلبها احتياجاته شاقة، وتطلب منه جهدا جهيدا وسعيا عظيما خارج مسكنه، فلا يتأتى له أن يتناول الطعام إلا في أوقات متباعدة؛ ولذلك كان لا يجلس على الطعام إلا وقعات قليلة ويأكل كثيرا، بخلاف المرأة؛ فإن سعيها قاصر على تدبير منزلها، وحركتها بالنظر إلى ذلك قليلة، والأشغال المطلوبة منها وإن كانت مهمة إلا أنها غير شاقة بالنسبة إلى أشغال الرجل وهمومه، وهي دائما في البيت، وهو دائما بعيد عنه؛ ولذلك كانت تأكل أقل من الرجل، وتجلس على الطعام وقعات أكثر منه؛ ولهذا كانت أنهم منه.
وأما كون الذي يمنعها من ارتكاب الجرائم «إنما هو خجلها وحياؤها، وحالها من الرضوخ، وعوائدها التي تحجبها، وضعف جسدها»؛ فهو قول بعضهم، وكنت أود أن أسلم مع حضرتها بأن الذي يمنعها من ذلك إنما هو «لأنها أميل إلى السلام وحب الاتفاق وكره المآثم والشرور» إلى آخر ما قالت؛ لأني أريد أن تكون لها هذه الصفات لولا أن هذا التعليل نفسه قاصر، ويحتاج إلى تعليل آخر يعرف منه لماذا هي كذلك؛ فلا شك أنها كذلك لأنها أضعف وأذل من الرجل، وهذا يولد فيها الخوف، ولأنها محجبة وإن لم تبق مقنعة، وهذا يولد فيها الخجل والحياء، وما أدلهما من صفتين لا أرضى للسيدات أن يخجلن منهما.
وعلى نفس هذا التعليل يعلل لماذا المرأة أحيل وأخدع من الرجل، لكن لما كانت حضرتها لا ترى وجه إقناع في قولي «لأنها أضعف منه، والحيلة والخداع سلاح الضعيف»؛ كان لا بد لي من بسط الكلام عليه على وجه أعم تأييدا لهذه الحقيقة النظرية التي هي في ثبوتها كالحقائق الطبيعية المقررة. ولا ننظر إليها في أنواع الحيوان، حيث نرى آلافا من الأمثلة التي تدلنا على أن الحيلة هي كل قوة الحيوان الضعيف لردع عدوان الحيوان القوي عنه أو لأخذه في شركه، ولولا ذلك لما أمكن بقاؤه حيا مع خصمه القوي؛ بل ننظر إليها في أحوال الأمم في العمران. فلا يخفى أن الشرائع الحاكمة على الأمم كانت في بدء الأمر استبدادية ظالمة، ولم تزل غير متساوية في كل الأقطار، ومعلوم أن الاستبداد يورث الخوف في قلوب الرعية، فلا تجد ما يحميها من غضب حاكمها المستبد سوى التملق له والرياء به. والرياء يورث الخداع والكذب وما شاكل، ويستحكم فيها ذلك بطول لبثها محكومة بالاستبداد، وينتقل في نسلها بالوراثة خلفا عن سلف، حتى يصير فيها أخيرا طبيعة لا تزول منها بالتعليم والحرية، حتى يمر عليها منهما بقدر ما مر عليها من عصور الجهل والاستبداد؛ ولذلك كنت ترى القوم الذين عاشوا تحت ظل الاستبداد واستحكم فيهم الرياء، قوما لا يصدقون ولا يصدقون، وقلما تجد بينهم صديقا مخلصا ولو خرجوا إلى نور العلم والحرية، ولست تجد بينهم ذلك حتى يمر عليهم فيه بقدر ما مر عليهم محجوبين عنه. وما قيل هنا يقال أيضا عن الرجل والمرأة، وكلامنا عام لا يجوز النظر فيه إلى شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، بل إلى عموم البشر في العمران؛ فإن الرجل لجهله استبد في أول الأمر، وخافته المرأة فاستسلمت له، وأقبلت عليه متملقة كي تنجو من جوره. ولا يكفينا أن ننظر إلى نساء الشعوب المتمدنة، بل فلننظر إلى نساء الشعوب التي لم تزل غارقة في الجهل؛ فلا نكاد نجد امرأة تخاطب زوجها إلا كعبد ذليل أمام سيده المستبد، فكيف يمكن لهذه المرأة أن تكون غير محتالة ومخادعة؟ وكون المرأة أحيل وأخدع من الرجل لا يحط من شأنها بقدر ما يحط من شأن الرجل الذي هو سبب ذلك فيها. على أني لا أنكر بأن هذه الصفات المذمومة في المرأة الجاهلة تنقلب - وهنا أوافق حضرتها - إلى مزايا ممدوحة في المرأة المتهذبة، بحيث تصير فيها فضيلة واتضاعا وطاعة وصبرا وطهرا وعفافا ومحبة وشفقة وحنوا، إلى آخر ما وصفتها به من جليل المزايا وحميد السجايا. (3)
ناپیژندل شوی مخ