إله ولكن عبد شهواته وأسير احتياجاته، يرتدي ثوبا كثفت هيولاه، إليها مرجعه ومنها قواه. إله ينحل كالجماد ويتغذى كالنبات ويتألم كالحيوان. فإذا انحل لم يترك غير كثيف المادة، وإذا اغتذى فلا يغتذي إلا منها، وإذا تحرك فلا يتحرك إلا فيها وبها. إله يولد وما هو بباق، ويموت وما هو بفان. يمثل الفصول في أدوارها والمادة في أطوارها. ينشأ بذرة كالنبات والحيوان، ينمو مثلهما، ويتعاظم مستعيرا عناصر المادة إلى أن يهرم، فيرقد في بذرته عائدا من حيث أتى بعد أن يكون قد رد إلى الطبيعة ثيابا عارية وأخلاقا بالية، استعارها منها ولم يكن له غنى عنها.
علم ذلك كله في هبة مرت مر السحاب، حطت من كبريائه وكسرت من خيلائه، ارتسمت له الحقيقة فيها مجردة عن زخرف الكلام وبهرجة الخيال. في هبة انتعاش هو منتهى الحياة وابتداء الموت، كالانتعاش الذي يسبق انطفاء النور. استيقظ فيها كالنائم وقد انتبه، فرأى الحقيقة مرتسمة أمامه بأحرف نافرة تنفذ الأبصار ولا تفوتها العين، قرأها ثم رقد. ماذا قرأ؟ وماذا رأى؟ لم يقل.
المقالة الثامنة
حول مقالتي
1
بحث بسيكولوجي سوسيولوجي أو أخلاقي عمراني
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
كنت جالسا ذات يوم بين فريق من نخبة الأدباء، فسمعتهم يتحدثون بما جاء في «كتاب مصر الحديثة» من التعريض بدين القرآن، وما أحدثه ذلك من الثورة في الأفكار، وما ترتب عليها من المناقشات في الأندية والمجالس والردود في الجرائد. ورأيت مدار بحثهم قائما على المسائل الخلافية التي لا ينضب البحث فيها، ولا تأتي بجدوى غير إثارة الضغائن واحتدام الخصام، واشتداد الجدال على أمور لا طائل تحتها يظنها الباحث من جوهر الدين، وهي عند العاقل ليست منه في شيء. ورأيت أن البحث على هذه الصورة لا يزيد نار الخلاف إلا استعارا، ويزيد الانشقاق بين أصحاب الأديان المختلفة، ولا يفيد أصحاب الدين الواحد فائدة عمرانية البتة. يدخلون لبحث بهوى التشيع، ويخرجون منه بنار التحمس، وكل يخيل له أنه محكم العقل فيما يذهب إليه، وأنه على هدى وسواه في ضلال مبين، وما منهم من يشك فيما يقول ، ولا يذكر أنه إنما شب على هذا الدين أو ذاك المذهب كرها لا طوعا، طبقا للحديث النبوي: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.»
ولا يخفى ما في هذا الكلام من الحكمة الرائعة والفلسفة العالية، وكأني أشرت إلى ذلك في كلامي على التربية الأولى، وما لها من الأثر الراسخ في الذهن حتى يصير فيه من البدائه التي تفوق طور الروية، فلا تقبل تمحيصا ولا تطيق جدالا.
وكأن الحقيقة بدت لي في غير ما هم فيه يخوضون، فرأيت أن في المسألة نظرا دقيقا، وكأنما الكل عنه غافلون، فقلت لهم إني لا أرى رأي أحد منكم، لا رأي صاحب كتاب «مصر الحديثة»، ولا رأي كل منكم على اختلاف منازعكم الدينية؛ فالدين في نظري لا علاقة له رأسا بالعمران من حيث تأثيره في ارتقائه ووقوفه وتقهقره، أو هو تأثيره واحد فيه؛ لأن كل الأديان أصولها واحدة في كل الأمم، وتصبو إلى غاية واحدة اجتماعية، وهي إصلاح أمور الإنسان في معايشه، ولا يؤثر فيه إلا نزعات رجاله في أحكامه الفرعية. فإذا عملوا بموجب الدين، وحكموا العقل في تطبيق هذه الأحكام على مصلحة العمران بحسب روح كل زمان؛ لم يصده ذلك عن الارتقاء.
ناپیژندل شوی مخ