وهذا التعليل ربما لا يوافقه فيه كثير من العلماء اليوم؛ لأنه لم يتحقق لهم أثر الحر والبرد في توليد اللون. فقد ذكر «كنوك» نقلا عن «سميث» أن الهولانديين الذين قطنوا أفريقيا الجنوبية لم يتغير لونهم في مدة ثلاثة قرون، وذهب «دي كاترفاج» إلى أن طوائف النور واليهود لم يتغيروا مع أنهم منتشرون في عامة الأقاليم من عهد طويل. والصحيح أنهم لم يتغيروا تغيرا مهما إلا أن هذه الأدلة لا تفيد شيئا عظيما ضد هذا الأثر؛ لقصر الأحقاب المذكورة بالنسبة إلى الأعصار المتطاولة التي توالت على الإنسان، وبالنظر لما للإنسان من الاقتدار على تغيير الأحوال الطبيعية وتحويل أثرها فيه لما يناسبه. وربما كان هناك أسباب أخرى أيضا، كالانتخاب الطبيعي والجنسي كما يذهب داروين، والقوت والأمراض وغير ذلك. والحق أن التعليل عن لون البشر لا يزال غامضا، إلا أنه لا ينكر أن لضوء الشمس والحر كسائر الأسباب الطبيعية أيضا أثرا فيه؛ لما يعلم من تأثر المادة الملونة للجلد (والموجودة في جلد البشر عموما) تبعا لطبيعة الإقليم، بحيث يزيد إفرازها ويقل بحسب حر الإقليم وبرده، كما يقول المشرح صابي. •••
ثم يصف ابن خلدون تأثير ذلك في الأخلاق ، فيقول: «ومن خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قطر. والسبب الصحيح تأثير الإقليم والحر.» إلى أن يقول: «ونجد يسيرا من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث؛ لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها؛ لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول. واعتبر ذلك أيضا في أهل مصر، فإنها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريب منها، كيف تغلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب، حتى إنهم لا يذخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة أكلهم من أسواقهم.» أقول: وربما كان لعدم إذخارهم القوت سبب آخر غير الغفلة التي أشار إليها ابن خلدون؛ فلا يخفى أن ما ينشأ في بلاد باردة من انقطاع المواصلة بين أهلها بسبب البرد والمطر والثلج يولد في سكانها الحيطة خوفا من ذلك، فيدخرون أقواتهم لسنة، بل ولأكثر من سنة، بخلاف سكان البلاد التي يندر مطرها ويقل بردها، فهم لا يرون لزوما لأن يحتاطوا لأمر لا يخشون وقوعه.
وقد ذكر تأثير الخصب والجدب بما ينطبق على قولنا: «وسكان بلاد لينة التربة كثيرة السهول والبطاح كثيرة الخصب واسعة الرزق، قلما يحتاجون إلى جهد البدن والعقل للحصول على الرزق والإثراء؛ فإن أرضهم تنبت ما يكفيهم، وربما ثبطت منهم الهمم بقدر سعة العيش مثل بلاد مصر؛ فإن نيلها يفيض التبر، وأرضها تنبت الذهب.»
ومن عجيب ما ذهب إليه في هذا الباب - مما لو اطلع عليه علماء طبائع الحيوان اليوم لأثبتوا له السبق على «داروين» و«لامرك» في مذهبهما بأحقاب متطاولة، وإن لم يقصد ذلك نظيرهما - هو قوله: «واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر، مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة، كيف تجد بينها بونا بعيدا في صفاء أديمها، وحسن رونقها وأشكالها، وتناسب أعضائها، وحدة مداركها؛ فالغزال أخو المعز، والزرافة أخت البعير، والحمار والبقر أخو الحمار والبقر، والبون بينها ما رأيت؛ وما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره، والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء.» •••
إلا أنه، أي ابن خلدون، وإن كان قد أشبع الكلام في أثر الأسباب الطبيعية، إنما لم يذكر تأثير الأسباب الأدبية كما فعل أبقراط، ولا يخفى ما لهذه الأسباب من شديد الأثر في ذلك. والحق يقال إنه يصعب استيفاء الكلام في هذا الموضوع جملة ومبوبا ولو في مجلدات ضخمة؛ لكثرة هذه الأسباب وامتزاجها واختلاف نتائجها بحسب ذلك مما لا يقع تحت ضبط كما أشرنا إليه فيما تقدم.
فهذه الأسباب الطبيعية والأدبية، مع ما يعرض لها من الامتزاج والاختلاف، إنما تؤثر تأثيرا شديدا في العمران لشدة تأثيرها في الإنسان، وهذا هو السبب في عدم تساوي البشر في صفاتهم ونظاماتهم وعلومهم وصنائعهم ولغاتهم وسائر ما يتعلق بهم، بعدم استواء الأسباب المؤثرة في طبائعهم وأخلاقهم. إنما لم يكن يمتنع إصلاح أحوالهم بالأسباب الأدبية؛ لما للإنسان من الاقتدار بها على التأثير في الأسباب الطبيعية نفسها، وجعلها أصلح الأحوال له؛ لأن الإنسان وإن كان منفعلا لهذه الأسباب بحسب طبيعتها، إلا أنه قادر كذلك على تغييرها وتبديلها، واتقاء شرها واستدرار خيرها، بما له من حدة المدارك وقوة الاستنباط؛ لذلك كان من الواجب عليه ألا يغفل شأن معدات التربية العقلية كالتعليم والنظامات السياسية وسواها؛ لئلا يفقد بفقد الصالح منها عامة فوائد العمران، ويسقط في مهاوي التهلكة والخسران.
المقالة الخامسة
تاريخ الاجتماع الطبيعي
كلما ارتقى الإنسان في العلوم الطبيعية قلت الحاجة به إلى إجهاد القوى العقلية، والالتجاء إلى العلوم الجدلية، والتعطش إلى قراءة الأقاصيص الخيالية الخرافية والتحليلية المزعوم أنها وصف حقيقي للعواطف، وأصبح شأنها حقيرا، وهو اليوم يحسبها من صناعات الآداب الراقية، وما هي بالحقيقة إلا من مختلقات الوضع المناقضة للطبع، والتي ضررها اليوم أشد جدا من ضرر الفلسفة القديمة، ومن ضرر علم الكلام وعلم اللاهوت في العصور المظلمة؛ لأنها طمت على الاجتماع كالسيل الجارف حتى أغرقته فيها، وما كان فضل فرنسا في ثورتها الاجتماعية السياسية ليعادل ضررها بعد ذلك في منهجها هذا النهج، وهي عماد هذه الأقاصيص اليوم. ***
تقدم القول في مقالة «الاجتماع البشري والعمران» أن من الناس من يذهب إلى أن الاجتماع نتيجة الفكرة وحدها وخصه بالإنسان، ومنهم من يذهب إلى أنه طبيعي فيه وأطلقه على الحيوان. أما الأول فقول أكثر الحكماء المتقدمين، وأما الثاني فقول أكثر الحكماء والطبيعيين المتأخرين. وسترى مما نبسطه لك فيما يأتي أي القولين أحق وأولى.
ناپیژندل شوی مخ