فإذا قيل: ما هو السبب في كون تاريخ تمدن بعض شعوب المشرق يتقهقر إلى 150 قرنا مع أن أهل أوروبا لم يكونوا منذ سبعة أو ثمانية آلاف سنة إلا قبائل متوحشة يقطنون المغاير والكهوف؟ فالسبب واضح لمن يتدبر مذهب الأدوار الجليدية، فإن بلاد مصر، لعدم وجود الجبال فيها ولاتصالها من طرفها الجنوبي بمدار السرطان، آمنة من نوازل الثلج والجليد، فلا تعيق نمو الإنسان فيها، وكذلك يقال أيضا عن السهول الواسعة الممتدة في جنوبي آسيا من حدود البحر المتوسط إلى حدود الصين، بخلاف أوروبا فإنها لبعدها عن المدارين واتصالها بالأبحر الشمالية، فالبرد يشتد فيها جدا فيتراكم الثلج على القسم الأعظم من سطحها فتحول دون نمو الإنسان فيها. وهذا هو السبب في عدم ظهور آثار الإنسان السابق العهد التاريخي فيها إلى ما بعد تقهقر الأنهار الجليدية الأخيرة. ولا يوجد قبلها إلا بعض عظام بشرية يندر وجودها أكثر فأكثر كلما اقتربنا إلى أسافل الأراضي التي تكونت في الدور الرباعي. •••
ثم يتضح أيضا، على مذهب الأدوار الجليدية، سبب أمر آخر كثير الإبهام كسابقه، وذلك أن من يقابل بين أمم الشرق القديمة وبين الأمم الحاضرة بالنظر إلى نشاط القوى العقلية يستعظم الفرق بينها. أليست بلاد الهند وإيران والكلدان مهد التمدن وأم العلوم والصنائع (فإن خرابات بابل ونينوى لا تزال موضوع اندهاش أهل هذا العصر؛ مما يدل على أن الصنائع فيهما كانت بالغة من الإتقان أعلى درجة، فضلا عن أن علم الهيئة نشأ في بابل والعلوم الرياضية كانت متسعة جدا في بلاد الهند)، فما الذي استولى عليه حتى لم يبق لها بقية تذكر أو ذكر يشهر؟ أليست البلاد التي أولدت طالس وأرخميدس وهيبرخوس عقيمة منذ زمان طويل، فكيف وهنت قوى هؤلاء الشعوب، ولماذا سكنت حركتهم عن التقدم في معراج التمدن؟ إن سبب ذلك يتضح من دور البرد الأخير الذي استولى على نصف الكرة الشمالي؛ فإن شدته وصلت إلى أبعد من حدود الأنهار الجليدية بكثير (فإن دور البرد الشديد المستولي الآن على نصف الكرة الجنوبي لا يزال تأثيره واصلا إلى حدود رأس الرجاء الصالح في أفريقية وبونس أيرس في أمريكا مع أنه دخل في التناقص من تاريخ 1250 سنة للميلاد)، فأهالي جبال آسيا لما داهمها الثلج حينئذ انسحبت من أمام البرد والتجأت إلى السهول المنحدرة نحو شطوط البحر المتوسط وخليج العجم وبحر الهند.
وما دامت تلك الثلوج تبعث الهواء البارد إلى الجنوب، فتبرد تلك الجهات دام المهاجرون إليها على نشاطهم العقلي الخاص بسكان البلاد الباردة، فنما التمدن وانتشر في الشرق؛ ولكن لما أخذت تلك الثلوج تذوب وتتقهقر أخذت طبائع تلك الأقاليم تتغير فاستولت عليها حرارة الجهات المدارية، واستولى الخمول على سكانها وأخذ نشاطهم ينحط وعزائمهم تضعف، حتى سكنوا في رقدتهم التي نراهم فيها، فنهض الغرب حينئذ إذ خلع عنه جلباب البرد القارس الذي كان كبل قواه وأخمد أنفاسه قرونا عديدة، وأبان للعالم أجمع كم ترك الأوائل للأواخر بما أبداه من النشاط الذي فاق كل نشاط، فإن الذي اتصل إليه ابن المغرب من السعة في المعارف والدقة في العلوم والإتقان في الصنائع لا تبعد عنا شهوده ولا يترك محلا للريب في أنه أناله قصب السبق في ميدان الإنسانية. ولكن لا فضل لأحد بذلك؛ فالفضل لله، ولا عار علينا بخمولنا؛ فإنه بحكم الدور سيأتي زمن لا يتجاوز مائة قرن بتعديل الجيولوجيين، فيه تعود الثلوج وتغطي القسم الأعظم من نصف الكرة الشمالي، فتمسي تلك العواصم المأهولة كبطرسبورج وفيينا وبرلين وباريس ولوندرة ونيويورك.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فيولي أهلها الأدبار من أمام وجه البرد طالبين ملجأ في جنوبي أوروبا، وفي أماكن أخرى على شطوط البحر المتوسط، ويتقهقر الغرب، ويبرد هواء الشرق فيدب النشاط في عروق أهله وتوافيه السعادة بعد الشقاء، وينتقل محور التمدن إليه.
إن البلاد لكالعباد؛ فإنها
تشقى كما تشقى العباد وتسعد
ولنذكر الآن ما استفاده العلماء من الأدوار الجليدية، فالجيولوجيون استفادوا منها معرفة أعمار طبقات الأرض المختلفة بمراقبة ظواهر الجليد فيها، والإنتربولوجيون استفادوا معرفة عمر الإنسان من آثاره فيها، أما الجيولوجيون فتحققوا في نصف الكرة الشمالي ثلاثة أدوار جليدية واضحة، أقدمها في الطبقة الوسطى للأراضي الثلاثية، والثاني في بداية الرواسب الرباعية، والأخير أنهار الجليد الأخيرة في جبال ألبا. وأما الأنثروبولوجيون فالظاهر أنهم وجدوا عظاما بشرية حتى في الطبقة الوسطى للأراضي الثلاثية؛ أي: في أقدم دور جليدي عرف إلى الآن. فإذا أضفنا 21000 سنة مدة رجوع الدور الجليدي مضروبة في 2 عدد الدورين الجليديين الشماليين الأول والثاني إلى 9250 سنة التي مرت من الدور الجليدي الشمالي الأخير إلى القرن الأول للميلاد، كان لنا عمر الإنسان المعروف إلى الآن، وربما كانت الأبحاث المستقبلة تبعد تاريخه عن ذلك أيضا؛ على أننا نقول: إن كل ذلك منقول عن أرباب هذا العلم، فلا نجزم بصحته، بل نتبرأ من تبعته، فلا يهلل المعتقدون ولا يتهلل الجاحدون.
2
ناپیژندل شوی مخ