254

Ma'a Al-Mushakikin Fi Al-Sunnah

مع المشككين في السنة

ایډیټر

فاروق يحيى محمد الحاج

ژانرونه

سابعًا: أن عمر وغيره من الصحابة ﵃ ممن امتنع عن إحضار الكتف والدواة ليكتب لهم فيها النبي ﷺ لم يكونوا ﵃ عصاةً، كما صورهم صاحب الرسالة؛ لأن أمره هذا ﵊ لم يكن للوجوب، بل للندب. ويدلُّ عليه: أن طلبه ﷺ هذا منهم كان في يوم الخميس، وقد عاش ﷺ بعده إلى يوم الاثنين، ولم يثبت أنه ﷺ عاود أمرهم بذلك. ولو كان واجبًا لم يتركهم لاختلافهم؛ لأنه ﵊ لا يترك التبليغ لمخالفة من خالف. وقد كان الصحابة ﵃ يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم، فإذا عزم امتثلوا (^١).
وفَهْمُ الصحابة ﵃ أجمعين لأمره ﷺ هذا بأنه ليس للوجوب كفهمهم ﵃ لقوله ﷺ لهم: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) (^٢). حيث تخوف أناس من فوات الوقت فَصَلُّوا في الطريق، وتمسك آخرون بظاهر النص فلم يُصَلُّوا إلا بعد أن وصلوا، فلم يعنِّف ﵊ أحدًا من الفريقين (^٣).
وقال البيهقي: «ولو كان ما يريد (^٤) النبي ﷺ أن يكتب لهم شيئًا مفروضًا لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم؛ لقول الله ﷿: ﴿بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة:٦٧]، كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه» (^٥). قال النووي: وهذا «كما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث» (^٦).
ثامنًا: اختلف العلماء في المراد بالكتاب الذي همَّ النبي ﷺ أن يكتبه لهم:
فقيل: أراد ﷺ أن يكتب كتابًا ينصّ فيه على الأحكام؛ ليرتفع الاختلاف.
وقيل: بل أراد ﷺ أن ينصّ على أسامي الخلفاء بعده؛ حتى لا يقع بينهم الاختلاف. قاله سفيان بن عيينة. ويؤيده: أنه ﷺ قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة ﵂: (ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ؛ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) (^٧). أخرجه مسلم. ومع ذلك لم يكتب.

(^١) فتح الباري لابن حجر (١/ ٢٠٩).
(^٢) عن ابن عمر ﵄ قال: قال النبي ﷺ لنا لما رجع من الأحزاب: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)، الحديث. صحيح البخاري، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً (٣/ ١٥)، رقم (٩٤٦)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (٣/ ١٣٩١)، رقم (١٧٧٠). وفي رواية مسلم: "الظهر" بدل "العصر".
(^٣) تمام الحديث السابق: (فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلَّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ). صحيح البخاري، أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً (٣/ ١٥)، رقم (٩٤٦)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (٣/ ١٣٩١)، رقم (١٧٧٠). واللفظ لمسلم.
(^٤) كذا في دلائل النبوة للبيهقي، ولعل الصواب: مراد.
(^٥) دلائل النبوة للبيهقي (٧/ ١٨٤).
(^٦) شرح صحيح مسلم للنووي (١١/ ٩٠).
(^٧) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي بكر الصديق ﵁ (٤/ ١٨٥٧)، رقم (٢٣٨٧).
قال ابن حجر: «والأول أظهر؛ لقول عمر: (كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا)، أي: كافينا، مع أنه يشمل الوجه الثاني؛ لأنه بعض أفراده» (^١).
وبعد هذا التطواف بين أقوال العلماء في معنى هذا الحديث أحب أن أُقرّ عيون الغيورين على السُّنَّة بأن الطعن في أحاديث الصحيحين أو بعضها بهذه الطريقة السخيفة التي سلكها صاحب الرسالة لم يُعهد عن أحد من العلماء الرَّبانيين أبدًا، وإنما عُرف ذلك عن بعض الطوائف كالزنادقة والرافضة قديمًا (^٢) والمستشرقين والمستغربين حديثًا (^٣). وهذا مما يخفف الألم ويهوّن المصيبة؛ لأن دوافع هؤلاء معلومة لكل أحد، والناس لا يغترون بكلامهم ولا يلقون إليه بالًا؛ لِمَا ظهر لهم من سوء نياتهم وقبح أعمالهم.
فالزنادقة ردُّوا السُّنَّة مطلقًا، ولم يكتفوا بذلك حتى أدخلوا عليها أحاديث ليست منها. قال حماد بن زيد البصري: «وضعت الزَّنَادِقَة على رَسُول الله ﷺ أَرْبَعَة عشر ألف حَدِيث» (^٤).
وأمَّا الرافضة فقد تقدم أنهم لا يقبلون أي طريق للنقل إلا ما كان عن بعض أهل البيت، وعرَّفوا الحديث الصحيح بأنه: «ما اتصل سنده إلى المعصوم -أي: من الأئمة- بنقل العدل الإمامي عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة» (^٥).

(^١) فتح الباري لابن حجر (١/ ٢٠٩).
(^٢) قال الإمام السيوطي: «الزنادقة وطائفة من غلاة الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن». مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي. وقد تقدم.
(^٣) دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور/ محمد مصطفى الأعظمي (١/ ٢٦ - ٢٧)، و(٢/ ٤٣٩)، وما بعدها. فمن المستشرقين: غولدتسيهر، وفنسك، والبرفسير شاخت، ومن المستغربين: أبو ريه، وأحمد أمين، وتوفيق صدقي، وإسماعيل أدهم.
(^٤) الموضوعات لابن الجوزي (١/ ٣٨).
وجاء عنه بلفظ: «وَضَعَتِ الزَّنَادِقَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اثْنَي عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ». الضعفاء الكبير للعقيلي (١/ ١٥)، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ص:٤٣١). وقال في "تحرير علوم الحديث" -عبد الله بن يوسف الجديع-: «وإسناده صحيح». تحرير علوم الحديث عبد الله بن يوسف الجديع (٢/ ١٠٤٣)، حاشية رقم (١).
قال ابن الأمير الصنعاني: «قلت: ومعرفة قدر عددها دليل على تتبع الحفاظ من الأئمة لها ومعرفتهم إياها». توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لابن الأمير الصنعاني (٢/ ٥٥).
(^٥) دراسات في علم الدراية لعلي أكبر غفاري " [كتاب إلكتروني - صفحاته مرقمة آليًا، وليست موافقة في ترقيمها للنسخ المطبوعة] " (ص:٢٩)، ومعجم مصطلحات الرجال والدراية، إصدار: مركز البحوث التابع لمؤسسة دار الحديث، تحت إشراف وتوجيه: محمد كاظم رحمان ستايش " [كتاب إلكتروني - صفحاته مرقمة آليًا، وليست موافقة في ترقيمها للنسخ المطبوعة] " (٥/ ٢٧). وانظر: مع الاثني عشرية في الأصول والفروع للدكتور/ علي السالوس (ص:٧٠٦).

1 / 253