ولقد علمت أن مقاعد كنيسة نيويورك لا تباع، ولا تؤجر، ولا تعرض للمصليين، ولكنها تقتنى اقتناء، فكأنها ملك لصاحب، أو عرش لرب، يتحول بالإرث من أب إلى ابنه، فلا يستطيع الغريب أن يدخل بيت الله للصلاة، إلا إذا أراد أن يقف عند الباب بفارغ صبره، وإن حصوله على خلاص لنفسه، لأسهل من حصوله على مقعد ليريح ركبتيه من عناء الوقوف.
أما أنا فقد جلست على مقعد مضيفي، وأخال مضيفي حصل عليه بالقوة؛ لأن جلدة كتاب الترانيم تحمل اسما غير اسمه، وهم اسم إحدى العائلات العريقة، المتسلسلة من عائلات إنكلترا القديمة، وقد طرأت على هذا المقعد تقلبات عديدة، بتنقله من يد صاحب إلى آخر، حتى لم يبق من فراغ قليل على جلدة كتاب الترانيم لوضع اسم جديد.
يقاسي الأغنياء قليلا من إجحاف يسببه غناهم، فعنهم قال مؤسس الديانة المسيحية نفسه أشياء مؤلمة، وقد حرم عليهم دخول السماء بمثل ضربه، فوا الحالة هذه لا يجب أن يعدموا الحق، بأن يجعلوا لأنفسهم سماوات أخرى على الأرض، في كنيسة صغيرة، حيث يستطيعون أن يناجوا ربهم دون مقاوم أو معكر. ها هنا أولئك الأغنياء المساكين، يحبسون أنفسهم ردحا قصيرا، ولا حق لأحد من سائر سكان الغرباء، أن يتطفل عليهم بدقائقهم المكرسة للعبادة، فهم يستوون جالسين في متكآتهم، برزانة وتأنق، يرنمون النشيد المائة والسادس والسبعين، أو المزمور الواحد والخمسين، خاشعين، يستوعبون الإيمان بكل مسامعهم، وشاعرين بسلام داخلهم، وسلام مع العالم، ومع الله.
وهذه حال الواعظ، الذي لا يلقي عليهم من المنبر شيئا من أمثال الناصري - عن الغني والعازر - أو عن الجمل وثقب الإبرة، إن هذا المحترم يراعي شعوريته وأميالهم.
ليغفر لي الله ما ذكرته هنا؛ فقد أتيت الكنسية لأصلي لا لأغالط. وأما أولئك الذين قد يكونون المسببين لي هذا التغيير العقلي السيئ من قريب وبعيد، وحاضر أو غائب، فأنا أبتهل إلى الله أن يغفر لهم ويرحمهم.
انتهت الصلاة، ولكن القسم الجوهري منها لم ينته، بل سيقام في الزقاق الضيق أمام الكنيسة؛ حيث شرذمة من البوليس، يهتمون بحركة العربات الذاهبة والآتية، حينذاك يتقدم قطار سيارات متعددة الألوان والأشكال، متألقة، يحف بها الحشم، وعلى دفتها سائقون بهيئاتهم المتشامخة، وتظهر العربات المتلألئة تجرها الجياد المطهمات، فيثب منها الغلمان المرتدون أثوابهم الخاصة، ليفتحوا أو يقفلوا أبواب العربات.
غوغاء غرور ... ضجيج ... تصلف، معرض مدهش لإظهار أبهة وفخفخة، فتعال معي يا أخي المسيحي؛ تعال معي إلى الجامع.
جبران خليل جبران
(1) وعظتني نفسي
وعظتني نفسي ، فعلمتني حب ما يمقته الناس، ومصافاة من يضاغنونه، وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب، بل في المحبوب، وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطا دقيقا مشدودا بين وتدين متقاربين. أما الآن فقد تحول إلى هالة، أولها آخرها، وآخرها أولها، تحيط بكل كائن، وتتوسع ببطء، لتضم كل ما سيكون. •••
ناپیژندل شوی مخ