ونتيجة الكلام التفاهم.
ونتيجة التفاهم التأثير.
وأبلغ تأثير في الكلام الصادق.
امرأة تحنو على جثة وحيدها ناثرة دموع قلبها بصمت، وأخرى تتباكى معها مولولة، معولة، متفجعة بصراخ يصم الآذان. تجثو مع الأولى، وقد تسرب حزنها الصامت إلى قلوبنا لصدقه. وندير ظهورنا إلى الأخرى متأففين، وقد نم عويلها عن حزنها الكاذب. ينظر يسوع الناصري إلى مسلمه يهوذا الأسخريوطي، ويسأله بسكون ولطف: «يا صاحب لماذا جئت؟» فتفعل هذه العبارة البسيطة المختصرة في نفوسنا أكثر بألف ألف مرة من ألف ألف خطاب، لألف محام شهير، في ألف عصر. شحاذان يقول لنا أولهما: «أنا جائع» ويسكت، فنتحنن عليه ونطعمه. والثاني يتلو علينا موعظة يسوع على الجبل، باكيا بدموع راحيل، متوجعا كتوجع الخنسا؛ فنلوي عنه كارهين مشمئزين.
عرفت رجلا ذا لسان ماهر بتنميق الكلام، وله طرق خصوصية في اللهجة، وإشارات رشيقة، وحركات، وغمزات تغري السامع للإصغاء، وتترك لعبارات المتكلم رنة لطيفة ناعمة، يتهادى صداها إلى حين طويل، وله فصاحة في اللفظ، وإحاطة بالوصف قلما يجاريه بهما ممثل أو خطيب، إذا عرضت في حديثه بصلة، مثلا يصورها للسامعين مفصلا شكلها ولونها ووزنها ورائحتها وطعمها، حتى يكادوا أن يشعروا برائحة البصل في أنوفهم وبطعمه على ألسنتهم، ومع كل ذلك لم يكن أحد يصغي إليه إلا إذا أراد الضحك والتسلية. وبقيت جاهلا السبب، إلى أن اجتمعت به مرة، وجعل يحدثني عن بقرة عجيبة، واصفا إياها وصفا دقيقا جميلا، حتى كدت أراها أمامي. وكل ذلك الوصف لم يكن إلا كمقدمة لخبر عجيب، وهو أنهم كانوا يطعمون تلك البقرة أقة من الأرز صباحا، ويحلبونها في المساء «سطل رز بحليب بسكر ومازهر»، عندئذ عرفت السر الذي يمنع القوم من الإصغاء لذلك الملسان، وهو على ما هو من الفصاحة وطيب الحديث، عرفت أن جميع حسناته المنطيقية، لم تكن لتعادل سيئة واحدة فيه، وهي المبالغة.
لذلك الكذاب من الإخوان بيننا ألف شاعر وكاتب وخطيب.
ولبقرته العجيبة ألف شبه من بقر القصائد والمقامات والروايات، التي حليبها «رز بحليب بسكر ومازهر.»
ناظم «في قلب أوروبا له ترديد» كذاب كمصنف قصة البقرة، هذا يجرب أن يقنعنا ويقنع علماء التشريح بأن الأرز الذي كانت البقرة تأكله لم يكن ليسقط في معدتها، بل كان يتحول رأسا إلى ضرعها، وهناك يمتزج باللبن فتطبخهما حرارة الدم! وذاك لا يخجل أن يصف لنا حصانا لأنور، إذا صهل في الأستانة، رددت صدى صهيله وادي السين في فرنسا، وغابات هيدبارك في لندن! أما الأول فلا يصغي إليه أحد. وأما الثاني، ويا للعجب العجاب، فيتهافت عليه الصحافيون لينعم عليهم بقصائده، ويلتف حوله ألف رهط ورهط من «شعراء» أمثاله، يهنئونه بفوزه العظيم في معترك الأوزان والقوافي، ويحييه العوام في الأسواق هامسين فيما بينهم: «هو ذا الشاعر المجيد فلان.»
إننا والله لنحار في السبب الذي جعل واضعي قواعد الأدب عندنا أن يحسبوا الكذب من أول شروط البلاغة، وهم أعلام الأدب والعرفان.
فإن الآداب الدينية والمدنية تنهى عن الكذب.
ناپیژندل شوی مخ