فلا الأوزان ولا القوافي من ضرورة الشعر، كما أن المعابد والطقوس ليست من ضرورة الصلاة والعبادة. فرب عبارة منثورة جميلة التنسيق، موسيقية الرنة، كان فيها من الشعر أكثر مما في قصيدة من مائة بيت بمائة قافية. ورب صلاة خارجة من قلب منكسر، فوق رمال الصحراء، أدركت غايتها، وذهبت كصرخة في واد صلوات خارجة من مئات من الأفواه، بين مئات من القناديل والشموع، تحت سقوف مرصعة وقبب مزركشة.
غير أن القصد الأولى من طقوس العبادة، لم يكن إلا شريفا؛ لاعتقاد الناس أن الله لا يجيب صلاة إلا إذا ارتفعت إليه مع دخان محرقة، ولا يقبل محرقة إلا إذا تقدمت إليه بطريقة معلومة وبعبارات منتخبة. وكذاك القصد من أوزان الشعر؛ فقد رأى الأقدمون أن الشعر، وهو لغة النفس، لا يليق بها ما لم يكن مقيدا بأوزان؛ إذ وجدوا أن الأوزان تساعد على تنسيق الجمل وتوازنها، وفي التوازن سر من أسرار الجمال.
إن طقوس العبادة - على اختلاف أنواعها - جميلة، لمن يفهم سر رموزها، وليس من طقس إلا يرمز إلى فكر . لكن من طبيعة الجمهور أن ينظر إلى ظواهر الأمور، كما لو كانت هي جواهر الأمور. فالجمهور لا يفكر، بل يقبل الأشياء كما هي؛ لذلك فالرموز تحل عنده محل ما ترمز إليه؛ ولذلك ترى الديانات أصبحت مجموعة طقوس وعوائد، فالذي تمكن من حفظ كل تلك الطقوس والتقاليد، تأهل لأن يكون كاهنا أو شيخا أو قسيسا.
ولو نظرت الآن يا صاحبي إلى أوزان الشعر، وجدت أن حكايتنا معها هي حكايتنا مع طقوس العبادة. إن القصد الأساسي من الوزن هو التناسق والتوازن في التعبير عن العواطف والأفكار، ولا شك أن الأوزان نشأت نشوءا طبيعيا، وكان سبب ظهورها ميل الشاعر إلى تلحين عواطفه وأفكاره. والكلام المتوازن المقاطع، أسهل للتلحين من الكلام الذي لا توازن بين مقاطعه، من حيث الطول والقصر؛ لذاك لحق الوزن بالشعر ونما معه نموا طبيعيا، فكان يتكيف بالشعر ولا يتكيف الشعر به. هكذا نما الشعر العربي ونمت أوزانه. وما زال الوزن لاحقا والشعر سابقا، إلى أن قيض الله لأبي عبد الرحمن أن جمع كل ما توصل إليه من الأوزان، فبوبها وحددها، وجعل لكل منها قواعد، ولكل قاعدة جوازات، وللجوازات جوازات، إلخ.
منذ ذلك الحين يا أخي أخذ الوزن يتغلب رويدا رويدا على الشعر، إلى أن أصبح الشعر لاحقا والوزن سابقا. وأصبح كل من قدر أن يتغلب على عروض الخليل بأوزانها وزحافاتها وعللها أهلا لأن يدعى شاعرا. وذاك راجع إلى ما قلته عن طقوس العادة، بأن الجمهور من طبيعته أن ينظر إلى ظواهر الأمور، كما لو كانت هي جواهر الأمور.
لو نظرت يا أخي إلى ما جمعناه منذ نيف وألف سنة، لوجدته - مع استثناء قليل منه - معرضا للأبحر الشعرية، بين طويلها وبسيطها وكاملها وخفيفها، إلخ، مع ما «يطرأ عليها من الزحافات والعلل.»
لا تضحك، فالموقف موقف بكاء لا ضحك، أمن المضحكات أن تدفن ألف سنة من حياتنا الأدبية بالزحافات والعلل؟
العروض لم تسئ إلى شعرنا فقط، بل قد أساءت إلى أدبنا بنوع عام، فبتقديمها الوزن على الشعر قد جعلت الشعر في نظر الجمهور صناعة، إذا أحاط الطالب بكل تفاصيلها أصبح شاعرا! وإذ إن للشاعر منذ بدء التاريخ مقاما رفيعا بين قومه، أصبح كل طالب شهرة يلجأ إلى العروض كإلى أقرب الموارد، وبذاك انصرفت أكثر مواهبنا إلى قرض الشعر، فأفقنا اليوم ولا روايات عندنا، ولا مسارح، ولا علوم ولا اكتشافات، ولا اختراعات. ولا شك أن كثيرين ممن انصرفوا إلى النظم حبا بالشهرة، لو انصرفوا إلى غيره من أبواب الكتابة والدرس لجاءوا معاصريهم وجاءونا بنفع كبير. ناهيك عن أن درس علم العروض يستغرق وقتا طويلا، فقل معي: وا لهف قلباه على عقول أحداث لا تزال تصارع العروض على مقاعد المدرسة.
لقد بلغ منا الولع بالعروض درجة أصبحنا معها لا ننطق إلا شعرا «وأعني نظما»، حتى قواعد نحونا أبينا أن نلقنها لأحداثنا إلا منظومة! هاك ألفية ابن مالك، وهاك «نار القرى»، بل قد نظمنا الحساب والجبر والجغرافية والطب والفلك، ولم لا؟
وأصبحنا نتراسل نظما، ونتصافح نظما ونشرب الخمر نظما، ونأكل الكبة نظما، ونعمد أولادنا نظما، ونزوجهم نظما، ونستقبل أصدقاءنا نظما، ونودعهم نظما، ونهنئهم بعيد أو بمركز أو بمولود نظما، إلى أن لم يبق في حياتنا ما ليس منظوما سوى عواطفنا وأفكارنا! وعندما دانت لنا العروض، وأتتنا زحافاتها وعللها صاغرة، رحنا نكتشف طرقا جديدة نظهر بها مقدرتنا «النظمية»، فاهتدينا إلى التواريخ الشعرية، فصرنا إذا مات صديقنا «حاتم منصور» لا نكتفي بأن نشق عليه الجيوب، ونستمطر السحاب، ونقرح المآقي، ونشتم الموت، ونعاتب الدهر، ونواري الشمس والقمر في التراب، بل نحفر على حجر فوق رأسه تاريخ موته بأحرف منظومة لا بأرقام بسيطة:
ناپیژندل شوی مخ