(1) الزحافات والعلل: نظرة في الشعر وأوزانه
دع همومك التجارية والسياسية والعائلية يا أخي، وتأبط جراب صبرك واتبعني، تسألني إلى أين؟ ولنفرض إلى جهنم! أوليست جهنم خيرا من عالم يصابحنا بالقال والقيل، ويعاشينا بالقيل والقال؟ وما قيله إلا هبوط أسعار وارتفاع أسعار، وما قاله إلا انتصار سياسة وإخفاق سياسة. فتأبط جراب صبرك واتبعني، ولا تسل إلى أين. قد أسلك بك طريقا وعرا، وقد أدخل بك أجمة ملتفة الأدغال، وقد أريك طرف مرج فسيح، وقد أعود بك من حيث انطلقت، كأنك لا رحت ولا جئت، فتمسك بجراب صبرك، فالصبر خير سلاح للمؤمنين، ولنمش.
هل سمعت في حياتك يا أخي برجل يدعى أبا عبد الرحمن الخليل بن أحمد البصري الأزدي الفراهيدي؟ لا، إذن فاعلم، وقاك الله أن أبا عبد الرحمن (تغمده الله برحمته ورضوانه) ولد في سنة مائة للهجرة، وتوفي عن خمس وسبعين عاما، قضاها بالبر والتعبد والتقوى، ووضع علم العروض.
والعروض - رعاك الله - «علم بأصول يعرف بها صحيح أوزان الشعر العربي، وفاسدها، وما يطرأ عليها من الزحافات والعلل.»
و«الزحافات والعلل» أوبئة تنزل بأوزان الشعر العربي، فتحرك ساكنا، أو تسكن متحركا، وتقضم حرفا هنا، ومقطعا هناك. وقد عني بها الخليل عناية خاصة، فأعطى لكل منها اسما، ورتبها في أبواب وفصول، هي أكثر عدا من خطاياي.
هذا هو أبو عبد الرحمن يا صاحبي، فلنقدس ذكره، ولنجل مقامه، فلولاه لكنا بلا زحافات وعلل، وكيف تكتمل لنا السعادة بدون زحافات وعلل؟ ولولاه لما كان لنا علم العروض، الذي «يعرف به صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها.» وأنى لنا أن نميز بين ما هو شعر وما ليس شعرا، ما لم نعرف صحيح الأوزان من فاسدها؟
لقد مات الخليل يا أخي، ومنذ مات الخليل حتى اليوم، ونحن منغمسون في درس الخبن والخبل، والترفيل والتذييل، والنقص والوقص، والقطف والكسف، والخرم والثلم، والقصر والبتر؛ إلى ما هنالك من علل زاحفة، وزحافات معتلة، إلى أن ملكنا بإذن الله ناصية علم العروض ، وأصبحنا بمنة الخليل نميز بين «صحيح أوزان الشعر العربي وفاسدها.»
أما أننا في جدنا وراء ناصية العروض، قد أفلتت من يدنا ناصية الشعر. وأننا في جهدنا وراء التمييز بين صحيح أوزان الشعر وفاسدها، قد نسينا الفرق بين ما هو شعر، وما ليس شعرا، فما ذاك بالأمر الخطير! فالمهم المهم أن نعرف إذا ما نظمنا بيتا أننا لم نجز لأنفسنا ما لم يجزه الخليل، وأننا لم نهتك حرمة قاعدة، ولم نخل بحرف من ناموس، ولم نتجاوز حد تقليد شريف، أو طقس مقدس، فاتكلنا على الله ورحنا ننظم القصائد.
ومن حسنات علم العروض يا رفيقي، أنه كثير البحور، ولكل بحر من بحوره قوارب، يتعذر عليك ركوبه إلا بها، ولكل من تلك القوارب مقاذيف لا تدار إلا بها، ولكل من تلك المقاذيف حلقات وحنيات ومماسك لا يعرفها إلا غزير الخبرة، وطويل الأناة. لذاك فالملاحة في هذه البحور تقضي اقتحام الأخطار، والمجازفة بالحياة، ولذاك قد حذرنا العاقلون من الإقدام عليها إذ قالوا:
الشعر صعب وطويل سلمه
ناپیژندل شوی مخ