ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
ژانرونه
جلس حسن على كرسي كان بجوار النافذة، وأرسل دمعة تحدرت على خديه تخط عليهما ما قدرته له الأيام.
الفصل الثامن
بعد عامين
رجلان قطعا من الحياة نصف مرحلتها؛ الأول معمم، والثاني مطربش. الأول له لحية كثة وأنف كبير وعينان لهما إطار أحمر، وضعته يد الخمر والسهر، وجبة سوداء يصح لنا أن نطلق عليها كلمة نظيفة، ولو أنها لا تخلو من بعض بقع لا تظهر إلا لعين الفاحص المدقق. والثاني حليق ذو أنف أفطس وعينين براقتين يلمع فيهما نور الذكاء، وبدلة كلح لونها، وعذره في ذلك أنها بدلة عمل. الأول مصري مسلم، والثاني سوري مسيحي. هذا يشتغل في الفاروق ليحرر باب الأخبار ويصحح ما يكتبه كتاب الأقاليم، وذاك ليترجم النبذ السياسية عن الجرائد الفرنسية. والغرفة التي كانا بها مساحتها أربعة أمتار في خمسة، وليس بها إلا مكتبان وعدة كراسي من الخيزران، ولوحة معلقة فوق مكتب الأستاذ ومكتوب عليها بالثلث «الفاروق».
جلس الأستاذ أمام مكتبه وخلع عمامته ثم وضعها فوق كتاب المصباح المنير، وابتدأ يداعبها بيده اليسرى، ويشرب لفافة تبغ بيده اليمنى بعد أن انتهى من شرب فنجان القهوة. أما الأقلام والأوراق، فكانت ملقاة فوق المكتب بعضها فوق بعض، ووقف الأفندي أمامه واضعا يسراه على كرسي من الخيزران، وممسكا بيمينه جريدة الماتان. يقرأ فيها فصولها الهامة. فابتدر الأستاذ صاحبه قائلا: تفضل سيجارة. - أشكرك. لقد انتهيت من أختها منذ قليل.
واستمر الأفندي في المطالعة والأستاذ في أفكاره الخيالية حتى أعياه التفكير، فنظر لصاحبه فوجده قد طوى جريدته، وهم بالذهاب لمكتبه فاستوقفه قائلا: هل من جديد؟ - أكاد لا أجد شيئا يستوقف النظر، اللهم إلا مقالة عن الزواج في أمريكا ربما اشتغلت بعد حين بترجمتها. - وما قولك في مقال أمين خربوش؟ - أحسده على سمو خياله ورقة أسلوبه، وآسف لفقر مادته. - صدقت. لو كان مثلك له دراية باللغات الإفرنكية لبز هيجو وشكسبير. - يا صديقي، اللغات تفتح للأعين طريقا مغلقة، ولكن لانكساب النفس مواهب جديدة. - وهل تظن أن خربوشا محروم من مواهب الفن؟ - من مواهب الابتكار فقط، والابتكار أساس الكتابة. - وهل قرأت قصيدة علي بدر. لقد دفع إلي بها رئيسنا لتنشر في صدر الجريدة. - أظنها لا تخلو من المدح. - كعادته. - أف لشعرائنا الكرام؛ فقد قل من يعتني منهم بالخيال والمعنى. - وما تقصد بذلك؟ - أقصد أن الشعر لا يستعذبه القارئ إلا إذا كان لشاعره وحي من السماء. - الشعر يا صاحبي، هو اللفظ الحسن والديباجة الأنيقة.
سكت الأفندي هنيهة وهو مطرق للأرض، ثم رفع رأسه وحدق في وجه الأستاذ وقال: «ربما!»
وذهب توا إلى مكتبه، وهم بالترجمة فإذا بالأستاذ يقول له: لعل لك رأيا آخر؟
فابتدأ الأفندي في الكتابة، وقال وهو ينظر في الجريدة: «ربما!»
فعز على شيخنا ذلك فقال: أتهزأ يا بحري أفندي بالكلام المنسجم واللفظ الأنيق؟! - حاشا أن أكون ذلك الرجل، ولكني أكبر على شعرائنا المفلقين أن يصرفوا همهم للغزل والمدح والرثاء والهجو، وينتقون لذلك الديباجة المليحة واللفظ الشائق، ويغفلون عن تلك الروح العالية التي إذا قرأها القارئ جرت في نفسه مجرى الماء المثلوج في صدر الظامئ.
ناپیژندل شوی مخ