ومعنى هذا الانتقال أن الدين كان في المقدمة يغمر كل شيء في القرن الثالث عشر، ولكنه تراجع في القرن السادس عشر وأصبحت هناك حرف جديدة غير الدين يحترفها العلماء والخاصة، وليس بيكون الثاني سوى بيكون الأول قد بولغ في نزعته الأولى، وهي الاعتماد على التجربة، وقد وجد في عصره قبولا لم يجده سميه السابق.
ألف بيكون الثاني في 1605 كتابين في الطرق التي يمكن أن تتقدم بها المعارف البشرية، دعا فيهما إلى ضرورة التجربة باعتبارها الأساس لهذه المعارف وإلى الاعتماد على الطبيعة دون الكتب، وإليك كلمات منه تدلك على الغاية التي وضعها نصب عينيه، فهو يقول مثلا: «الإنسان خادم الطبيعة ومفسرها».
ثم يقول: «هناك عدة أدلة تدل على أنه لا يزال في جوف الطبيعة أسرار كثيرة لها قيمتها العظمى، وليس لها شبه أو قرابة مما نعرفه نحن الآن، وهي بعيدة عن خيالنا لم نقف على كنهها بعد».
ثم يقول في انتقاد الطب: «ولنا هنا أن نلاحظ كيف أن الأطباء قد كفوا عن استعمال تلك الطريقة المفيدة التي كان أبقراط يتبعها حين كان يدون العلاجات الخاصة بجد ودقة حيث كان يصف طبيعة المرض وظروفة». «... وهذا التدوين للتقريرات الطبية نجده الآن ناقصا وخاصة من حيث إيجاد مجموعة منظمة قد هضمها البحث والتمييز».
فمن هذه المقتبسات يتضح للقارئ أنه يريد الاعتماد على التجربة، ثم جمع التجارب وتدوينها لاستخراج النتائج، وقد اقترح إيجاد كلية أطلق عليها اسم «بيت سليمان» تجمع فيها طوائف العلماء للدرس والتجارب، وبهذه الكلية آلات وأجهزة وأفران لهذه الغاية، ويمنح المشتغلون فيها إجازات طويلة مع النفقات الضرورية لكي يرحلوا إلى الأمم الأخرى، ويجمعوا منها بالمشاهدة ما يزيد معارفهم.
ثم نجد في جميع مؤلفاته أقوالا تشبه ما كان يقوله روجر بيكون لدعوته إلى التجربة المباشرة بدلا من القياس المنطقي، وأخيرا نرى في ختام حياته رمزا للغاية التي نشدها إذ إنه أصيب بالإنفلونزا؛ لأنه وقف يحشو طائرا ميتا بالثلج كي يرى أثر البرودة في منع العفونة.
وليس كل من بيكون الأول ولا بيكون الثاني عالما، بالمعنى الذي نفهمه الآن من هذه الكلمة، ولكنهما كانا يدعوان إلى الطريقة العلمية وهي التجربة ، فكلاهما يدعو إلى المذهب العلمي ولكن لم يكن أحدهما «عمليا» أي: إنه لم يتخصص في تجارب عملية.
وميزة فرنسيس بيكون إنه نقل أوروبا من التفكير الفلسفي الإغريقي إلى التفكير العلمي التجريبي، والفرق بين الاثنين عظيم جدا؛ لأن الفيلسوف الإغريقي كان يضع المذهب ثم يجمع الحقائق التي توافقه، أي: توافق هذا المذهب، كأنه كان يعتقد أن في الكون أصولا ومبادئ يجب التسليم بها قبل دراسة الأشياء، ولكن التفكير العلمي يعتمد أولا، وفقط، على التجربة، أو ما يقابل التجربة من الاختبارات ثم يستنتج من التجارب مبادئ وأصولا، وقد تبلور هذا الأسلوب في فلسفة هوبز (1588-1679) المادية حتى قصر موضوع الفلسفة على المادة وحركتها.
وبكلمة أخرى نقول: إن الإغريق اعتمدوا على التفكير ولم يعتمدوا على المشاهدة، ومن هنا عنايتهم الكبيرة بالمنطق؛ لأنه حركة ذهنية محضة، وكتاب بيكون «نوفوم اورجانوم» أو «الوسيلة الجديدة» هو دعوة إلى التجربة، وإننا لن نفهم أكثر مما نعاين، ولكن حتى بعد المعاينة يجب ألا نثب إلى الاستنتاج، إذ يجب أن نعيد المعاينة والتجربة قبل أن نصل إلى الاستنتاج، أما اجترار المنطق ونحن بعيدون عن المشاهدة والتجربة فعقم وضرر.
ومن أحسن ما التفت إليه بيكون في كتابه هذا هو التنبيه إلى الخطأ السيكولوجي في التفكير الشائع في عصره وقبله، وهو نقل المنطق البشري بل المقاييس الاجتماعية إلى الطبيعة، وهذا هو ما وقع فيه الإغريق، حتى إنهم ظنوا أن الكون منتظم في دوائر؛ لأن الدائرة هي الشكل الكامل، وما دام الكون كاملا فيجب أن يسير في دوائر.
ناپیژندل شوی مخ