الفصل الأول
في ذكر سريان العشق في كل واحد من الهويات
كل واحد من الهويات المدبرة لما كان بطبيعته نازعا إلى كماله الذي هو خيرية هويته المنالة عن هوية الخير المحض، نافرا عن النقص الخاص به، الذي هو الشرية الهيولانية والعدمية، إذ كل شر فمن علائق الهيولي والعدم، فبين أن لكل واحد من الموجودات المدبرة توقانا طبيعيا وعشقا غريزيا، ويلزم ضرورة أن يكون العشق في هذه الأشياء سببا للوجود لها؛ لأن كل واحد مما يعبر عنه مترتب تحت أمور ثلاثة، إما أن يكون فائزا بخاص الكمال، أو ممترا بغاية النقص أو مترددا بين الحالتين حاصل الذات على مرتبة التوسط بين الأمرين، ثم إن البالغ في النقص غايته هو المنتهي إلى مطلق العدم، والمستوفي لجميع علائقه، فبالحري أن يطلق عليه معنى العدم المطلق، ثم الحقيق بإطلاق العدمية عليه، وإن استحق أن يعد في عداد الموجودات عند تقسيم أو توهم، فلن يعد وجوده وجودا ذاتيا، بل لن يستجاز عليه إطلاق الوجود إلا بالمجاز، ولن يتعرض لاعتداده من جملة الموجودات إلا بالعرض، فإذن الموجودات الحقيقية إما أن تكون موجودات مستسعدة بنهاية الكمال، أو موصوفة بالتردد بين نقص عارض من جهة ما وكمال موجود في الطبع.
فإذن جملة الموجودات لا تعرى عن ملابسة كمال ما، وملابستها له بعشق ونزاع في طبيعتها به ما يوجد متأحدة بكمالها ملازمة له، مما يوضح ذلك من جهة العلة واللمئية هو أن كل واحد من الهويات المدبرة لما كان لا يخلو عن كمال خاص به، ولم يكن مكتفيا بذاته لوجود كماله، إذ كمال الهويات المدبرة مستفاد من فيض الكامل بالذات، ولم يجز أن يتوهم أن هذا المبدأ المفيد للكمال يقصد بالإفادة واحدا واحدا من جزئيات الهويات على ما أوضحته الفلاسفة، فمن الواجب من حكمته وحسن تدبيره أن يغرز فيه عشقا كليا حتى يصير بذلك مستحفظا لما نال من فيض الكمالات الكلية، ونازعا إلى الاتحاد بها عند فقدانها؛ ليجري به أمر السياسة على النظام الكلي، فواجب إذن وجود هذا العشق في جميع الموجودات المدبرة وجودا غير مفارق البتة، وإلا لاحتاجت إلى عشق آخر يستحفظ به هذا العشق الكلي عند وجوده إشفاقا عن عدمه ويسترده عند فوته قلقا لبعده، وصار أحد العشقين معطلا لا طائل له، ووجود المعطل في الطبيعة أعني الوضع الإلهي باطل على أنه لا عشق خارجا عن العشق المطلق الكلي، وإذن وجود كل واحد من المدبرات بعشق غريزي فيه.
ولنجعل لهممنا في هذا المرام مرقى أعلى مما قدمناه، ولنفحص عن الموجود العالي عن التصرف تحت تدبير مدبر لعظم شأنه، فنقول: إن الخير بذاته معشوق، ولولا ذلك لما نصب كل واحد مما يشتهي أو يتوق أو يعمل عملا غرضا أمامه يتصوره خيرية، فلولا أن الخيرية بذاتها معشوقة وإلا لما اقتصرت الهمم على إيثار الخير في جميع المتصرفات، وكذلك الخير عاشق للخير؛ لأن العشق ليس في حقيقته إلا استحسان الحسن والملائم جدا، وهو مبدأ النزاع إليه عند بينونته إن كان مما يباين والاتحاد به عند وجوده، ثم كل واحد من الموجودات يستحسن ما لاءمه وينزع إليه مفقودا، والخير الخاص النيل للشيء في الحقيقة أو الحسبان فيما أظن هو الملائم بالحقيقة أو الحسبان، ثم الاستحسان والنزاع، فالاستقباح والنفرة في الموجود من علائق خيريته؛ لأنها لا تطلق على الموجود على وجه الاستصواب بالذات إلا من جهة خيريته؛ لأن الصواب إذا وجد عن الشيء بالذات فهو لسداده وخيريته، فبين أن الخير يعشق ما هو خير، إما الخاص به وإما المشترك، وعلة العشق هو ما نيل أو سينال منه أي من المعشوق، وكلما زادت الخيرية زاد استحقاق المعشوقية وزادت العاشقية للخير.
فإذا قد تقرر هذا فنقول إن الموجود المقدس عن الوقوع تحت التدبير، إذ هو الغاية في الخيرية، فهو الغاية في المعشوقية والغاية في العاشقية، الغاية في المعشوقية أعني بذلك ذاته تعالى، إذ الخير يعشق الخير بما يتوصل به إليه من نيله لإدراكه، والخير الأول مدرك لذاته بالفعل أبد الدهر في الدهر، فإذن عشقه له أكمل عشق وأوفاه، وإذن الصفات الإلهيات لا تمايز بينها بالذات في الذات، فإذن العشق هو صريح الذات والوجود أعني في الخير المحض، فإذن الموجودات إما أن يكون وجودها بسبب عشق فيها، وإما أن يكون وجودها والعشق هو هو نفسه، فتبين أن الهويات لا تخلوا عن العشق وذلك ما أردنا أن نبين.
الفصل الثاني
في ذكر وجود العشق في البسائط الغير الحية
البسائط الغير الحية على أقسام ثلاثة؛ أحدها: الهيولي الحقيقية، والثاني: الصورة التي لا يمكن لها القوام بانفراد ذاتها، والثالث: الأعراض. والفرق بين الأعراض وبين هذه الصورة أن هذه الصورة مقومة للجواهر؛ ولذلك استحقها الأوائل من الإلاهيين لأن يجعلوها من أقسام الجواهر؛ لكونها جزءا للجواهر القائمة بذواتها، ولم يحرموها سمة الجوهرية لأجل امتناع وجودها بمفرد الذات، إذ الجوهر الهيولاني هذا حاله، ومع هذا لا يستنكر اعتداده من جملة الجواهر لكونه في ذاته جزءا للجواهر القائمة بذواتها، بل ولأن يخصوها - أعني الصورة - بمزية في الجوهرية على الهيولي، إذ هذه الصورة الجوهرية بها يقوم الجوهر بالفعل جوهرا ومهما وجد أوجب وجود جوهر بالفعل، ولأجل ذلك قيل: إن الصورة جوهر بنوع فعل، وأما الهيولي فهي معدودة فيما يقبل الجوهرية بالقوة، إذ لا يلزم بوجود كل هيولي جوهر ما وجوده بالفعل، ولأجل ذلك قيل: إنه جوهر بنوع قوة، فقد تقرر من هذا القول حقيقة الصورة، ولا يحمل إطلاق هذه الحقيقة على العرض، إذ ليس هو بمقوم للجوهر ولا معدود بوجه من الوجوه جوهرا.
فإذا تقرر هذا فنقول: إن كل واحد من هذه الهويات البسيطة الغير الحية قرين عشق غريزي لا يتخلى عنه البتة، وهو سبب له في وجوده، فأما الهيولي فلديمومة نزاعها إلى الصورة مفقودة وولوعها بها موجودة؛ ولذلك تلقاها متى عريت عن صورة، بادرت إلى الاستبدال عنها بصورة أخرى إشفاقا عن ملابسة العدم المطلق، إذ من الحق أن كل واحد من الهويات نافر بطبعه عن العدم المطلق، فالهيولي مقر للعدم، فمهما كانت ذات صورة لم يقم فيها سوى العدم الإضافي، ولولا هذا للابسها العدم المطلق، ولا حاجة بنا ها هنا إلى الخوض في إيضاح لمئية ذلك، فإذن الهيولي كالمرأة الدميمة المشفقة عن استعلان دمامتها، فمهما انكشف قناعها غطت دمامتها بالكم، فقد تقرر أن في الهيولي عشقا غريزيا.
ناپیژندل شوی مخ