د ما وروسته سمونۍ: لنډه معرفي
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
الفصل الثاني
طرق جديدة لرؤية العالم
مقاومة الادعاءات الكبرى
يعتمد جزء كبير من نظرية ما بعد الحداثة على الالتزام بموقف متشكك، وتلعب مساهمة الفيلسوف جان فرنسوا ليوتار في هذا الإطار دورا محوريا؛ إذ زعم في كتابه «حالة ما بعد الحداثة» (الذي نشر بالفرنسية عام 1979، وبالإنجليزية عام 1984) أننا نعيش الآن في حقبة تمر فيها «النصوص السردية الرئيسية» المشرعة بأزمة وتشهد تراجعا. تضم الفلسفات الكبرى، مثل الكانطية والهيجلية والماركسية، تلك النصوص السردية أو تشير إليها ضمنا؛ إذ تزعم هذه الفلسفات أن التاريخ تقدمي، وأن المعرفة ستحررنا، وأن وحدة خفية تجمع بين جميع أشكال المعرفة. يهاجم ليوتار سرديتين رئيسيتين : السردية التي تدفع بالتحرر التدريجي للبشرية - بدءا من الخلاص المسيحي إلى اليوتوبيا الماركسية - والسردية التي تتناول انتصار العلم. يرى ليوتار أن تلك المعتقدات قد «فقدت مصداقيتها» منذ الحرب العالمية الثانية: «باختصار شديد، أعرف «ما بعد الحداثة» باعتبارها تشككا موجها إلى الادعاءات الكبرى.»
تهدف تلك الادعاءات الكبرى عادة إلى إضفاء شكل من الشرعية أو السلطة على الممارسات الثقافية. (ومن ثم، فإن إضفاء الشرعية على النظريات الفرويدية أو الماركسية ينبع من زعمها - الذي لم يعد مقبولا على نطاق واسع حاليا - أنها قائمة على مبادئ أو ادعاءات علمية كبرى.) مثال آخر على هذا هو التاريخ المدرسي الذي يروي قصة كتابة «دستور الولايات المتحدة» وإجراءات سن القوانين اللاحقة على أيدي الآباء المؤسسين. إن هذه الحكاية التاريخية الكبرى، بما تحتويه من «مبادئ مؤسسة» دستورية، ما زالت إلى حد كبير مصدر قلق مستمر في الخلافات الدائرة حاليا في الولايات المتحدة حول حدود حرية التعبير، والحق في الإجهاض، وحق المواطنين الأمريكيين العاديين في حمل السلاح. ومثال بسيط آخر على الادعاءات الكبرى هو الإيمان الماركسي بالدور المميز والحتمي للطبقة العاملة (البروليتاريا) - عند تحالفها مع الحزب - في إشعال الثورة ثم في تأسيس المدينة الفاضلة التي من المفترض أن تعقب ذلك، عندما «تتلاشى الدولة». منذ عام 1945، طورت حكومات الكثير من الأراضي المستعمرة سابقا على نحو مماثل ادعاءات سياسية طامحة إلى الهيمنة حول تاريخ الكفاح القومي. من الصعب تجنب تلك الادعاءات، وستجدها لدى جميع الدول القومية تقريبا.
على الرغم من وجود أسباب ليبرالية ومنطقية تبرر معارضة تلك «الادعاءات الكبرى» (لأنها لا تسمح بأي خلاف حول معناها، وغالبا ما تؤدي إلى قمع شمولي)، فإن مصداقية زعم ليوتار بتراجع الادعاءات الكبرى في أواخر القرن العشرين تعتمد في النهاية على احتكام إلى الحالة الثقافية السائدة لدى أقلية مثقفة. أما الزعم العام «من منظور علم الاجتماع» بتراجع تلك الادعاءات في عصرنا فيبدو واهيا إلى حد كبير - حتى بعد انهيار الماركسية التي ترعاها الدولة في الغرب - بما أن الامتثال إلى معتقدات قومية ودينية شمولية واسعة النطاق يؤدي حاليا إلى كثير من القمع والعنف والحرب في أيرلندا الشمالية وصربيا والشرق الأوسط وغيرها من الأماكن. (لكن ما بعد الحداثيين لا يحظون عادة بمعرفة واسعة بالممارسات السائدة حاليا في العلم والدين.) فمن الواضح لأي من قراء الصحف أن الرجال والنساء ما زالوا إلى حد ما مستعدين لقتل بعضهم البعض باسم الادعاءات الكبرى كل يوم، كما يتضح في الفتوى الصادرة ضد سلمان رشدي على سبيل المثال. في الواقع، إن الدافع وراء الثقة الشديدة التي يبديها ما بعد الحداثيين في تحليلهم العدائي للمجتمعات الأوروبية والأمريكية من حولهم في سبعينيات القرن العشرين قد يرجع بالفعل إلى أن تلك المجتمعات لم تمزقها النزاعات بين أيديولوجيات متناقضة. وربما كان التفكير في المزاعم المتعارضة بين الإسلام واليهودية في الشرق الأوسط، أو بين الماركسية والعملية الديمقراطية في أوروبا الشرقية، يقودهم إلى استنتاجات مختلفة. لكن التشكك حيال الارتباط بالادعاءات الكبرى الذي روج له ليوتار، وتردد صداه لدى دريدا وكثير غيرهما من أتباع ما بعد الحداثة، تمتع بجاذبية كبيرة لدى جيل تربى في الديمقراطيات الغربية؛ إذ تمتع أبناء هذا الجيل بتحرر نسبي من النظام اللاهوتي عبر الوجودية، وتأثروا بالمقاومة ضد الرأسمالية والتحالف العسكري الصناعي عام 1968، وتشككوا في الادعاءات «الاستعمارية» الأمريكية، وأهم من ذلك ربما شعروا بالحاجة إلى الهرب من العبارات الأيديولوجية المانوية المبتذلة ذات التأثير المميت التي سادت خلال الحرب الباردة.
بناء على ذلك، أصبح موقف بعد الحداثيين المبدئي هو التشكك في الادعاءات بوجود أي نوع من التفسير الجامع الشامل. فلم يكن ليوتار هو وحده من رأى أن مهمة المثقفين هي «المقاومة»، حتى إن كانت في وجه «إجماع» «أصبح باليا ومشكوكا في قيمته». استجاب ما بعد الحداثيين إلى هذه الرؤية، مدفوعين جزئيا بسبب جيد؛ ألا وهو التمكن من الانحياز إلى جانب من لا «يتلاءمون» مع الأطر العامة - أي التابعين والمهمشين - ضد من يتمتعون بسلطة نشر الادعاءات الكبرى؛ ومن ثم، كان العديد من مثقفي ما بعد الحداثة يعتبرون أنفسهم روادا ومعارضين شجعانا. وكان هذا مؤشرا على بداية عصر تعددي ؛ حيث إنه - كما سنرى لاحقا - تعتبر نقاشات العلماء والمؤرخين كذلك مجرد ادعاءات شبه مكتملة تتنافس مع جميع الادعاءات الأخرى لحيازة القبول. لا يملك ما بعد الحداثيين رؤية فريدة وموثوقا بها تتناسب مع العالم، ولا توافقا محددا مع الواقع؛ فتلك الأمور لا تزيد عن كونها صورة أخرى من صور الحكايات الخيالية.
بما أن معارضة تلك الادعاءات (ولا سيما الأنواع الشمولية أو الاستبدادية) هي بالطبع قضية ليبرالية تقليدية بمعنى الكلمة، فقد انشغل الكثير من كتابات ما بعد الحداثة البارزة بالتعبير عن هذا النوع من الشك لأغراض ليبرالية في الأساس، كما في أعمال إدوارد سعيد على سبيل المثال، الذي حاول في كتابه «الاستشراق» (1978) توضيح التأثيرات المشوهة الناتجة عن إسقاط ادعاء الإمبريالية الغربية الكبرى على المجتمعات الشرقية؛ إذ كان الإمبريالي يعتبر نفسه ممثلا لنظام عقلاني منظم، سلمي، ملتزم بالقانون، بينما يعرف الشرقيين باعتبارهم نقيض هذا (كما يتضح، على سبيل المثال، في «حالة الاضطراب» التي يكتشفها فورستر في روايته «ممر إلى الهند»)، ويثق بأن تمثيله «لهم» - أي نصه السردي عن «الاستشراق» - سيسود؛ ومن ثم، فرضت الرؤية الإمبريالية الرئيسية حول التطور التدريجي على ممارسة شرقية محلية - بل «منحرفة» - ليس إلا. في هذا الإطار يسير سعيد على خطى فوكو، ومذهب اليوهيمرية لدى الإغريق ولدى نيتشه، في الاعتقاد بأن تلك الادعاءات السياسية الكبرى هي على أحسن تقدير محاولات تتعمد الغموض لإبقاء بعض الفئات الاجتماعية في موقع السلطة وحرمان الآخرين منها. يلاحظ سعيد أنه عندما مارس فلوبير الجنس مع محظية مصرية - تدعى كوتشوك هانم - كتب إلى لويز كوليه قائلا: «المرأة الشرقية ليست سوى آلة، فهي لا تفرق بين رجل وآخر.» ومن خلال تلك الكلمات (وفي رواياته اللاحقة)، قدم فلوبير «نموذجا بالغ التأثير للمرأة الشرقية». لكن داخل نص فلوبير السردي المؤثر، «لا تتحدث (كوتشوك) عن نفسها أبدا، ولا تعبر عن مشاعرها أو وجودها أو تاريخها.» في وسعنا الآن أن نتخيل مدى الاختلاف الأكيد للرواية التي أوردتها للأحداث، لكن إطاري السرد - لدى كل من فلوبير وكوتشوك هانم - على ما يبدو غير متكافئين حضاريا، ومن هنا ينبع استنتاج ما بعد حداثي نموذجي يدفع باستحالة إيجاد الحقيقة الشاملة وبأن النسبية هي قدرنا.
التفكيكية
إن الثقة التي عبر بها ما بعد الحداثيين عن تلك المزاعم تأثرت إلى حد هائل بقراءة أعمال جاك دريدا الفلسفية، الذي تعكس كتاباته الغزيرة الشكل الأشد تعقيدا من هذا الموقف «التفكيكي».
ناپیژندل شوی مخ