د ما وروسته سمونۍ: لنډه معرفي
ما بعد الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
سأتحدث فيما يلي عن الفنانين، والزعماء الفكريين، والنقاد الأكاديميين، والفلاسفة، وأساتذة العلوم الاجتماعية المنتمين للفكر ما بعد الحداثي، كما لو كانوا جميعا أعضاء في حزب سياسي مشاكس «بلا تنظيم محكم». وهو إجمالا حزب عالمي و«تقدمي»، ينتمي لليسار لا لليمين، ويميل إلى تصنيف كل شيء - بدءا من اللوحات التجريدية إلى العلاقات الشخصية - كمواقف سياسية. لا يتبع الحزب عقيدة موحدة على وجه التحديد، بل إن من قدموا أبرز المساهمات الفكرية لبياناته الرسمية في بعض الأحيان ينكرون عضويتهم به في سخط، رغم ذلك فإن هذا الحزب ما بعد الحداثي يؤمن عادة أن عصره قد أتى. هو حزب متيقن من عدم تيقنه، وكثيرا ما يزعم أنه تجاوز الأوهام الراسخة لدى الآخرين، وأدرك الطبيعة «الحقيقية» للمؤسسات السياسية والثقافية التي تحيط بنا. في هذا الإطار، يتبع ما بعد الحداثيون خطى ماركس، ويزعمون أنهم يتمتعون بإدراك مميز للحالة الفذة المسيطرة على المجتمع المعاصر، الواقع في أسر ما يطلقون عليه «الوضع ما بعد الحداثي».
من ثم، لا يدعم بعد الحداثيين ببساطة المذاهب الجمالية، أو الحركات الطليعية مثل التبسيطية أو التصورية (التي انبثقت عنها أعمال مثل التكوين الطوبي الذي قدمه أندريه)، بل لديهم طريقة مميزة لرؤية العالم ككل، ويستخدمون مجموعة من الأفكار الفلسفية التي لا تكتفي بدعم الحالة الجمالية ل «ما بعد الحداثة»، بل تحلل أيضا الحالة الثقافية ل «ما بعد الحداثة» في عصر الرأسمالية المتأخرة. من المفترض أن هذه الحالة تؤثر فينا جميعا، لا عبر الفن الطليعي فحسب، بل على مستوى أكثر جذرية عبر تأثير ذلك النمو الهائل في وسائل الاتصال المعتمدة على الأجهزة الإلكترونية التي أطلق عليها مارشال ماكلوهان في ستينيات القرن العشرين «القرية الإلكترونية». ورغم ذلك، فإننا داخل «مجتمع المعلومات» الجديد الذي نعيش فيه، لا يمكننا - لدواعي المفارقة - الوثوق في معظم المعلومات، لكونها إسهاما في عملية التلاعب الهادفة إلى تلميع صورة أهل السلطة أكثر من كونها دعما للمعرفة؛ لذا، يتسم الاتجاه ما بعد الحداثي بكونه اتجاها تشككيا يتاخم حدود جنون الارتياب (كما نرى - على سبيل المثال - في روايات نظرية المؤامرة لتوماس بنشن ودون ديليلو وأفلام أوليفر ستون).
شكل 1-1: منظر داخلي من فندق ويستن بونافينتشر للمعماري بورتمان. «حيز ما بعد حداثي متعدد الأبعاد».
يرى فريدريك جيمسون - أحد كبار المعلقين الماركسيين على ما بعد الحداثة - أن فندق ويستن بونافينتشر، للمصمم المعماري جون بورتمان في لوس أنجلوس، هو بالكامل أحد دلائل هذه الحالة؛ إذ تتضافر التعقيدات الاستثنائية لمداخل الفندق، وتطلعه نحو أن يصير «عالما متكاملا، أو ضربا من المدن المصغرة»، ومصاعده المتحركة دوما تجعل منه «طفرة» تقود إلى «حيز ما بعد حداثي متعدد الأبعاد»، يتجاوز قدرات الجسم البشري على تحديد موقعه، وإيجاد مكان خاص به في عالم يمكن رسم خريطة له. إن هذا «الارتباك الساحق» - على حد قول جيمسون - يشكل معضلة، وهو «رمز يضاهي عجز عقولنا عن رسم خريطة لشبكة الاتصالات اللامركزية الكونية الهائلة المتعددة الجنسيات التي نوجد داخلها كأفراد.» وقد انتاب الكثير منا شعور مماثل داخل مركز بربيكان في لندن.
إن هذه النظرة التي تشبه وضعنا ب «التيه في فندق ضخم» توضح الطبيعة الحضرية لمذهب ما بعد الحداثة؛ حيث نشأ مناخ فكري جديد جالبا معه إدراكا جديدا. لكن تلك الأفكار والاتجاهات لطالما ظلت إلى حد كبير محل جدل، وفيما يلي سأقاوم شكوكية ما بعد الحداثة معتمدا على بعض شكوكي الخاصة. وبالتأكيد، سأنكر كون آرائها السياسية والفلسفية وأساليبها الفنية تكاد تتمتع بقدر الهيمنة الذي يوحي به التصريح الواثق عن بزوغ حقبة جديدة «ما بعد حداثية».
مع ذلك، يتضح الآن أنه حتى إذا اقتصر تناولنا على الأفكار السائدة داخل الحركة الطليعية الفنية منذ عام 1945، يمكننا استشعار ابتعادها عن نظيرتها في الحقبة الحداثية؛ إذ يوجد اختلاف كبير بين أعمال جيمس جويس وآلان روب جرييه، وبين أعمال إيجور سترافينسكي وكارلهاينز شتوكهاوزن، وبين أعمال هنري ماتيس وروبرت راوشينبرج، وبين أعمال جان رينوار وجان لوك جودار، وبين أعمال جايكوب إيبستاين وكارل أندريه، وبين أعمال ميس فان دير روه وروبرت فينتوري. إن ما نستنتجه من هذه المقارنة بين الحداثة وما بعد الحداثة في الفنون يعتمد إلى حد كبير على القيم التي يعتنقها المرء؛ إذ لا يمكن تحديد مسار تطور وحيد ها هنا.
ترجع العديد من تلك الاختلافات إلى حساسية الفنانين للتغيرات الحادثة في المناخ الفكري. فمع حلول منتصف ستينيات القرن العشرين، بدأ نقاد مثل سوزان سونتاج وإيهاب حسن في الإشارة إلى بعض الخصائص التي تميز ما نطلق عليه الآن «ما بعد الحداثة » في كل من أوروبا والولايات المتحدة؛ إذ زعما أن أعمال أتباع ما بعد الحداثة تعكس عن عمد مستوى أقل من الوحدة، ودرجة أقل وضوحا من «الإتقان»، وطابعا أكثر هزلية أو فوضوية، واهتماما بفهم الجمهور يزيد عن الاهتمام بالمتع المستمدة من الوحدة أو الصقل الفني، وميلا أقل إلى مراعاة تماسك النص، وبالطبع تمردا أكبر على التفسيرات المحددة، مقارنة بالكثير من الأشكال الفنية السابقة. وسوف نتناول عددا من الأمثلة على ذلك فيما بعد.
نشأة النظرية
في وقت لاحق نوعا ما على الفترة التي شهدت اشتهار الفنانين السابقي الذكر، حدث تطور إضافي في حركة ما بعد الحداثة؛ ألا وهو «نشأة النظرية» بين أوساط المثقفين والأكاديميين؛ إذ طور العاملون في جميع المجالات وعيا ذاتيا نقديا مفرطا. فوجه بعد الحداثيين اللوم إلى الحداثيين (وإلى قرائهم أو مشاهديهم أو مستمعيهم الإنسانيين الليبراليين «السذج» حسب افتراضهم) على إيمانهم بأن عملا فنيا قد يروق بطريقة ما إلى البشرية جمعاء؛ مما يعني كونه خاليا من الملابسات السياسية الباعثة على الانقسام.
إن صعود فنانين تجديديين عظماء في فترة ما بعد الحرب - أمثال شتوكهاوزن، وبوليز، وروب جرييه، وبيكيت، وكوفر، وراوشنبرج، وبويس - تلاه (ودعمه وفسره كما يزعم كثيرون)؛ نمو هائل في تأثير عدد ضخم من المثقفين الفرنسيين، نخص منهم بالذكر المنظر الاجتماعي الماركسي لويس ألتوسير، والناقد الثقافي رولان بارت، والفيلسوف جاك دريدا، والمؤرخ ميشيل فوكو، وقد بدءوا جميعا عملهم في الواقع عبر تأمل مضامين الحداثة، ونادرا ما جمعت أيا منهم علاقة ممتدة حقا بالحركة الطليعية المعاصرة. كان ألتوسير مهتما ببريخت، بينما ركز بارت على فلوبير وبروست، أما دريدا فقد اهتم بنيتشه وهايدجر ومالرميه، في حين انشغل فوكو بنيتشه وباتاي. ومع منتصف السبعينيات من القرن العشرين، أصبح من الصعب معرفة ما الأهم لدى أتباع ما بعد الحداثة، أهي صياغة شكل محدد من أشكال التجارب (الصادمة) داخل إطار الفن، أم فرص عرض التفسيرات السياسية والفلسفية الجديدة التي يتيحها هذا الشكل المحدد. قد يزعم كثيرون الآن أن بعد الحداثيين المخلصين لاتجاههم طالما «فضلوا» (على نحو كارثي) المضامين التفسيرية على التجسيد الفني الممتع والتعقيد الشكلي الذي اعتاد الكثير من الناس تقديره في الفن الحداثي.
ناپیژندل شوی مخ